









سمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت أبا الفضل بن العميد يقول: سمعت أبا مسلم الرستمي يقول: سمعت البحتري يذكر أن أجود شعر قاله: * أهلا بذلكم الخيال المقبل *
قال: وسمعت أبا الفضل بن العميد يقول: أجود شعره هو قوله: * في الشيب زجر له لو كان ينزجر * [221]
قال: وسئلت عن ذلك؟ فقلت: البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره.
فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا:
قوله: [222]
أهلا بذلكم الخَيَالِ المُقبِلِ * فَعَلَ الذي نهواه أو لم يفعلِ
بَرقٌ سَرَى في بطن وَجْرةَ فاهتدتْ * بِسَناهُ أعناقُ الرِّكاب الضُّلَّلِ
البيت الأول، في قوله: "ذلكم الخيال"، ثقل روح، وتطويل وحشو، وغيره أصلح له. وأخف منه قول الصنوبري:
أهلا بذاك الزَّورِ من زَورِ * شمسٌ بدت في فلكِ الدورِ
وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف، فيصير إلى الكَزازة، وتعود ملاحته بذلك مُلوحة، وفصاحته عِيًّا، وبراعته تكلفا، وسلاسته تعسفا، وملاسته تلويا وتعقدا. فهذا فصل.
وفيه شئ آخر، وهو أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حال إقباله، فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ففيه عهدة، وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة، وهو - لبراعته وحذقه في هذه الصنعة - يَعلَق نحو هذا الكلام، ولا ينظر في عواقبه، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.
ثم قوله: "فعل الذي نهواه أو لم يفعل" ليست بكلمة رشيقة، ولا لفظة ظريفة، وإن كانت كسائر الكلام.
فأما بيته الثاني، فهو عظيم الموقع في البهجة، وبديع المأخذ، حسن الرواء أنيق المنظر والمسمع، يملا القلب والفهم، ويفرح الخاطر، وتسري بشاشته في العروق.
وكان البحتري يسمى نحو هذه الأبيات: "عروق الذهب" وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة، وحذقه في البلاغة.
ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل، مع الديباجة الحسنة، والرونق المليح.
وذلك: أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه، كما يقال: إنه يسري كنسيم الصبا، فيطيب ما مر به، كذلك يضئ ما مر حوله، وينور ما مر به. وهذا غلو في الصنعة، إلا أن ذكره "بطن وجرة" حشو، وفي ذكره خلل، لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها، بخلاف ما يؤثر في غيرها، فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة.
وتحديده المكان - على الحشو - أحمدُ من تحديد امرئ القيس من ذكر "سقط اللوى بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة"، لم يقنع بذكر حد، حتى حده بأربعة حدود، كأنه يريد بيع المنزل فيخشى - إن أخل بحد - أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا! فهذا باب.
ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر، ودقة المطلب، ولطف المسلك، وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه، ويخالف ما وضع عليه أصل الباب.
ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه من جهة بطن وجرة، لأن هذا القطع إن كان فعله كان خارجا به عن النظم المحمود، ولم يكن مبدعا، ثم كان لا تكون فيه فائدة، لأن كل برق شَعَل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام، وكان لا يكون بما نظمه مفيدا ولا متقدما.
وهو على ما كان من مقصده فهو ذو لفظ محمود، ومعنى مستجلب غير مقصود، ويعلم بمثله أنه طلب العبارات، وتعليق القول بالإشارات.
وهذا من الشعر الحسن، الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل:
ولما قضينا من مِنًى كل حاجة * ومسح بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّت على حُدْب المَهارَى رِحالُنا * ولا ينظرُ الغادي الذي هو رائحُ [223]
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا * وسالتْ بأعناقِ المَطِيّ الأباطِحُ [224]
هذه ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع، حلوة المجاني والمواقع، قليلة المعاني والفوائد. [225]
فأما قول البحتري بعد ذلك:
من غادة مُنِعَتْ وتَمْنَعُ نَيلَها * فلو أنها بُذِلت لنا لم تَبْذُلِ
كالبدر غير مخيلٍ، والغُصن غيـ * ر مميل، والدِّعص غير مهيَّلِ [226]
فالبيت الأول - على ما تكلف فيه من المطابقة، وتجشم الصنعة - ألفاظه أوفر من معانيه، وكلماته أكثر من فوائده، وتعلم أن القصد وضع العبارات في مثله! ولو قال: هي ممنوعة مانعة، كان ينوب عن تطويله، وتكثيره الكلام وتهويله. ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان.
وأما البيت الثاني، فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص، أمر منقول متداول، ولا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك.
وإنما يبقى تشبيهه ثلاثة أشياء في البيت، وهذا أيضا قريب، لأن المعنى مكرر.
ويبقى له بعد ذلك شئ آخر، وهو تعمّله للترصيع في البيت كله، إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف، لأن التشبيه بالغصن كاف، فإذا زاد فقال: كالغصن غير معوج، كان ذلك من باب التكلف خللا، وكان ذلك زيادة يستغنى عنها.
وكذلك قوله: "كالدعص غير مهيل"، لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه، فلا يكون لتقييده معنى.
وأما قوله:
ما الحُسنُ عندك يا سُعادُ بمُحْسِنٍ * فيما أتاه ولا الجَمَال بمُجْمِلِ
عُذِلَ المَشُوقُ وإنَّ مِن سيما الهوَى * في حيث يجهلُه لَجاج العُذَّلِ
قوله في البيت الأول: "عندك" حشو، وليس بواقع ولا بديع، وفيه كلفة. والمعنى الذي قصده، أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء.
وفيه شئ آخر، لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وتهييم قلبه، وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب.
وبَيتُ كُشاجِم [227] أسلمُ من هذا، وأبعد من الخلل، وهو قوله:
بحياة حُسنِكِ أحسني، وبحق من * جعل الجمالَ عليكِ وقفا أجملي
وأما البيت الثاني فإن قوله: "في حيث"، حشا بقوله في كلامه، ووقع ذلك مستنكرا وحشيا، نافرا عن طبعه، جافيا في وضعه، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن! فهو يمحو حسنه، ويأتي على جماله.
ثم في المعنى شئ، لأن لَجَاج العُذَّل لا يدل على هوى مجهول، ولو كان مجهولا لم يهتدوا للعذل عليه. فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني.
ثم لو سلم من هذا الخلل لم يكن في البيت معنى بديع، ولا شئ يفوت قول الشعراء في العذل، فإن ذلك جَمَلُهم الذَّلول، وقولهم المكرر [ المَقول ]
وأما قوله:
ماذا عليكَ من انتظار مُتَيَّمٍ * بل ما يضُرُّك وقفةٌ في منزل
إن سِيلَ عَيَّ عن الجواب فلم يُطِقْ * رَجعا، فكيف يكون إن لم يُسأل
لست أنكر حسن البيتين وظرفهما، ورشاقتهما ولطفهما، وماءهما وبهجتهما، إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضربا من الانقطاع، لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر، وإنما جرى ذكر العُذّال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائمه.
ثم الذي ذكره من الانتظار - وإن كان مليحا في اللفظ - فهو في المعنى متكلف، لأن الواقف في الدار لا ينظر أمرا، وإنما يقف تحسرا وتلددا [228] وتحيرا.
والشطر الأخير من البيت واقع، والأول مستجلَب، وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر، لأن وضع البيت يقتضي تقدم عَذلٍ على الوقوف، ولم يحصل ذلك مذكورا في شعره من قبل.
وأما البيت الثاني، فإنه معلق بالأول، لا يستقل إلا به، وهم يعيبون وقوف البيت على غيره، ويرون أن البيت التام هو المحمود، والمصراع التام بنفسه - بحيث لا يقف على المصراع الآخر - أفضل وأتم وأحسن.
وقوله: "فكيف يكون إن لم يسأل"، مليح جدا، ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه، ولا يطرد فيه الماءُ اطراده فيه.
وفيه شئ آخر، لأنه لا يصح أن يكون السؤال سببا لأن يعيا عن الجواب، وظاهر القول يقتضيه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)