يتبع..


إفرازات الانتفاضة الجولانية :

استمر الإضراب العام والمفتوح ستة اشهر متواصلة، عانى فيها السكان من النقص الشديد للدواء والعلاج والغذاء وخاصة الأطفال منهم، بعد أن احرق العملاء مخازن علف المواشي. كان الجولان خلالها منطقة محاصرة ومعزولة تماماً عن العالم، وقد كان غزو إسرائيل الى لبنان أحد أسباب إنهاء الإضراب في العشرين من تموز عام 1982، إضافة الى رغبة إسرائيل في تهدئة الأوضاع الداخلية التي عانت منها بعد غزوها لبنان، والنقص الهائل التي عانى منه مواطنو الجولان خلال فترة الإضراب حيث ساءت الأوضاع المعيشية إلى حد لم تشهده الساحة الجولانية من قبل، واهتمام الرأي العام المحلي والدولي بما يحدث على الساحة اللبنانية بعد أن كان الاهتمام على الساحة الجولانية بحكم خطورة الحرب العدوانية على مستقبل المنطقة العربية عامة.

لقد كان قرار إنهاء الإضراب شعبياً أيضاً في اجتماع عام حضره الآلاف من المواطنين، استعرضت فيه النتائج التي أفرزتها المفاوضات مع السلطات الإسرائيلية وأهمها: الامتناع عن فرض الجنسية الاسرائيلية على السكان إلا لمن يطلبها دون ضغوطات، منع التجنيد الإجباري في جيش الاحتلال، إطلاق سراح كل المعتقلين السورين وإعادتهم الى ديارهم دون شروط، إبراز اسم هضبة الجولان في بطاقة الهوية محل اسم إسرائيل، الكف عن المضايقات التي تعرض لها السكان في أماكن عملهم قبل الإضراب في المرافق الإسرائيلية.

ورغم مرور إحدى وعشرين عاما على إعلان القرار الإسرائيلي بضم الجولان، لم تتوقف المقاومة الشعبية، وإن ضعفت وتراجعت في مواقع عدة، إلا أن الثوابت الوطنية والقومية ما زالت ثابتة تنير درب الجولان ين على طريق العودة الى حضن الوطن الأم سوريا والتحرير الكامل. ومن أجل إعطاء تجربتنا النضالية بعضاً من حقها علينا لا بد أن نستعرض القليل من عثراتنا وكبواتنا، لتكون درسا للمناضلين من بعدنا.

الرابع عشر من شباط بين الأعوام 1983-1985

إن المظاهر التي تم من خلالها إحياء ذكرى هذه المناسبة تميزت بطابعها التقليدي، الغير عنفي بشكله العام. وإذا عدنا الى الوراء لوجدنا أن المظاهر التي تجلى بها الرابع عشر من شباط اقتصرت على إعلان الإضراب العام، والدعوة الى مسيرة جماهيرية، تترافق مع مهرجان خطابي يتم إحيائه على خط وقف إطلاق النار، بمشاركة قطاعات مختلفة من أنحاء القطر والأقطار العربية الأخرى، وبمشاركة من كافة قرى الجولان المحتل، وبعض الوفود من فلسطين المحتلة. وغالباً ما كان يمضي هذا اليوم دون أي احتكاك مع قوات المحتل التي كانت تحافظ على عدم تدخلها على الرغم من المشاركة الجماهيرية الواسعة، ومرافقة هذه المظاهر برفع الأعلام السورية، وترديد الهتافات الوطنية المناهضة للاحتلال وأدواته.

أمام ذلك يتبادر مباشرة إلى الذهن التساؤلات: لماذا لم تتدخل قوات الاحتلال؟ ولماذا لم تبادر الجماهير الى تصعيد موقفها بحيث تتصادم وتشتبك مع قوات الشرطة، ونزوعها العام للمحافظة على بعد عن أي مظهر تصعيدي؟ واذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية هذه الذكرى التاريخية والسياسية وفق المنظور الثوري التقدمي المقاوم لجماهير شعبنا وقضيتها، وفي ذات الوقت خطورة هذه الذكرى على المحتل ورجالاته وأدواته وسياسته التهويدية التصفوية؟

حتى تأخذ الإجابة على هذه التساؤلات بعدها الشمولي والعام، لا بد من استعراض جملة من العوامل المحركة والمسببة لسيادة هذا الطابع السلمي على مجمل الفعاليات التي أفرزتها أحداث ما بعد العام 1982:

أولاً: على صعيد الحركة الوطنية الجماهيرية: إن مرحلة الإضراب بكل ما رافقه من نمو واضح في الشعور الوطني والقومي، وتبلوره في بوتقة الكفاح ضد الاحتلال الصهيوني، كان له الأثر على نزوع الجماهير الجولانية وعلى وجه الخصوص قواها التقدمية الواعية والمثقفة لتركيز هذه الجهود والنضالات في بوتقة العمل المنظم بأشكاله البدائية البسيطة قياساً مع المراحل العليا التي تتجلى بها عادة أي حركة وطنية، حيث الأحزاب والقوى السياسية الناضجة والنقابات ...الخ. هذا "التململ" إن صح التعبير والذي كان يتماوج بين القوة الكبيرة التي كانت تفرضها القيادات التقليدية، وبين الطموح في التقدم، كان له الإسهام الكبير في تبلور نمط مميز من المواجهة والتعبير عن الطموحات الوطنية. ومرحلة ما بعد الإضراب شهدت تحول بطئ على النوادي الرياضية باتجاه قيامها بجملة من التعديلات على بنيتها ومهامها ووظائفها الاجتماعية والنضالية، وكان لجملة هذه المعطيات التي بدأت تشق طريقها الأثر على كيفية إحياء المناسبات الوطنية عموماً وذكرى 14 شباط خاصة.

ثانياً: على صعيد الزعامات التقليدية: لا أحد يخفى حقيقة الدور الذي لعبته هذه القوى في مساهمتها بصياغة الموقف الوطني الرافض لقرار الضم، ولا أحد ينكر تأثيرها الكبير على حركة الجماهير وخطواتها أثناء الإضراب، إلا انه ومن باب التقييم والنقد لا نستطيع إنكار محدودية فعلها على كافة الصعد، أكان ذلك في الطبيعة التي اكتسبها الإضراب ونواقصه على الرغم مما حققه، أم على طبيعة المرحلة الممتدة من العام 83-85. ولأن الحديث يدور عن الرابع عشر من شباط كتجربة، فإن التأكيد على أن طابع هذه القيادة المشكل من وجهاء العائلات عادة، وطابع رؤيتها لآلية الكفاح ضد المحتلين، قد انعكسا بشكل مباشر على كيفية إحياء هذه المناسبة وعلى طابعها التقليدي الذي استمر الى سنوات متقدمة، فالمسيرة والمهرجان يتوافقان مع الرؤية الكلاسيكية لهذه القيادات، استنادا الى فكرة الاكتفاء بالتعبير عن الرفض بمسيرة ومهرجان. ولعل فكرة الاكتفاء بالمناسبات للتعبير عن رفض الاحتلال بينما أيام السنة الأخرى أيام عادية تدلل بالملموس على قصر وجهة النظر هذه.

ثالثاً : على صعيد سياسة الاحتلال وطابعها: إن عملية الترويض التي عمدت السلطة الى تطبيقها وتجربتها على جماهير الجولان ابتداءً من اليوم الأول للاحتلال وعلى مجمل الصعد، جعلت العدو أسير اعتقاده بأن ضم الجولان وفرض القوانين الصهيونية على سكانه لن يواجه بالرفض، لهذا اعتقدت السلطات في محاولة تمرير سياستها وسائل مباشرة وعلنية في بداية اكتشافها لفشل مشروعها، إضافة الى إنها كانت وفي أحايين عديدة تتجنب الاشتباك مع الجماهير وتعزف عن محاولات منعها من إحياء مناسباتها. وهذا الأسلوب الهادئ نسبياً في ظاهره، ساهم في دوره بالإبقاء على حالة التصعيد الجماهيري ضمن مستوى محدود، انطلاقا من فهم القانون القائل بأن العنف لا يولد إلا العنف، وهذا بالضبط ما حدث حيث أن عدم تدخل رجال الشرطة لتفريق تظاهرة أو مهرجان في القوة أدى إلى بقاء هذه المظاهرة في حدود مستوى معين من التصعيد، وخصوصاً في ظل ظروف البدايات في نمو المؤسسات والقوى الوطنية المنافسة للزعامات التقليدية في برامجها وطرحها ومشاريعها.

إجمالا فإننا نستطيع تلخيص مرحلة الأعوام الأولى من الإضراب بأنها كانت بمثابة المخاض لنشوء ونمو ظروف نضالية وقوى اكثر جذرية بمستويات اكثر حدة مما سبقها.

الرابع عشر من شباط من الأعوام 1986-1990 :

إن جملة العوامل والظروف التي ذكرت أعلاه والتي لعبت دورا هاما في مجمل الأحداث وفي كيفية إحياء 14/2 لم تنته انتهاءً تاماً وإنما طرأ عليها جملة من التطورات التي تلاءمت بالضرورة مع الظروف الجديدة، فالقيادات التقليدية ضعف دورها وتلاشى إلى حدود التأثير الطفيف على مجريات الأمور، بينما المؤسسات ازدادت تطوراً وزخماً في مجمل نشاطاتها وفعالياتها، والنوادي الرياضية التي كان نشاطها ينحصر في العمل الرياضي أصبحت مقرات للندوات ومنطلقا للعمل المؤسساتي الجماهيري، جنباً الى جنب مع رابطة الجامعيين التي انطلقت ببرنامج اجتماعي سياسي تثقيفي بمبادرة عدد من الجامعيين، لعبت دوراً مهماً وحاسماً في مجمل نواحي العملية النضالية والاجتماعية والثقافية. إضافة إلى ذلك فإن سياسة الاحتلال تبدلت وأخذت شكلا تعسفياً أكثر من خلال تحرك أجهزة الاستخبارات الصهيونية، وبالطرق السرية، لضرب الصف الوطني وتشتيته، ولإسقاط وتحييد أكبر عدد ممكن من الشباب الوطني الصاعد، العمود الفقري للعملية النضالية، إضافة الى إقدام السلطات وبشكل سافر لمنع أي تحرك جماهيري عبر التدخل العنيف.

إن مجمل هذه التطورات ما كانت لتحدث لولا التغيرات العميقة التي حدثت على صعيد الجبهة الوطنية الداخلية لجماهيرنا، ولولا الوعي الذي ازداد زخماً يوما بعد يوم، ولولا اقتناع العديد من الشباب المتحمس للعمل الوطني بالكفاح المسلح كوسيلة لضرب المحتلين ومقاومتهم عسكريا (مثال: حركة المقاومة السرية). عموما فإن أهم وأبرز مفاصل هذه المرحلة يتلخص بالنقاط التالية:

1- ازدياد الوعي الوطني والقومي وتجذره لدى قطاعات واسعة من جماهيرنا وتحديداً الشباب، وهذا أدى بالتالي إلى ازدياد العمل الوطني وإلى اتساع شموليته وتنوع أشكاله. وكانت حركة المقاومة السرية التنظيم العسكري السري المنظم وفق هيكلية تنظيمية الأول الذي أثبت نزوح الكثير من شبابنا للعمل ضد الاحتلال وبكافة الوسائل والمجموعات المسلحة التي تم الكشف عنها فيما بعد تؤكد ذلك.

2- ازدياد النضج لدى المؤسسات في حدود ليست بقليلة واتساع جماهيريتها، حيث استقطبت قطاعات شبابية واسعة من المثقفين والوطنيين الشباب.

3- ازدياد الشعور لدى الناس بالخطر الذي تشكله أجهزة المخابرات التي تنشر مظاهر الفساد والمخدرات والخلاعة وبث اليأس واللامبالاة بين الشبيبة الجولانية، إضافة الى المضايقات الاقتصادية والملاحقات القضائية، وضرب المنتوج المحلي الزراعي ومصادرة الأراضي وسرقة المياه... إلخ.

4- تفجر الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وما أحدثته من تأثير بالغ على جماهيرنا وشبابنا وعلى آلية إحياء مناسباتنا الوطنية ونضالنا ضد المحتل. إن ذلك كله أثر على الروح المعنوية والنضالية لدى شبابنا باتجاه الأفضل، وهذا ما لمسناه في بعض الأحداث المتفرقة في ذكرى الرابع عشر من شباط.

إجمالا فإن العملية النضالية في الجولان تطورت خلال سني ما بعد الإضراب حتى العام 1990. وهنا لا بد من الإشارة الى الاخفاقات التي رافقت المسيرة النضالية والتي انعكست على الحياة السياسية في الجولان:

- بروز بعض الخلافات السياسية والفكرية بين المؤسسات الوطنية وانعكاسها على جماهيرنا وبقائها دون حلول لفترة طويلة، وهذا أدى بالتالي إلى انخفاض مستوى العمل الوطني ومستوى النضال، نتيجة للابتعاد عن روح العمل الوحدوي الجماعي القائم على التنسيق والتشاور وصياغة البرنامج.

- إقدام العدو وعبر عملائه بزرع الدسائس والمكائد في صفوف الوطنيين، والتأثير على فاعليتهم، ونشر الخلافات وتعزيزها بينهم. ولعل الخلافات التي تحدث قبيل المخيم الصيفي مع أطراف اجتماعية ضيقة الأفق والتفكير، ومرحلة الفاكسات والوشايات وتأسيس الجمعية العربية للتطوير بعد السماح للبعض من زيارة الوطن، خير مثال على ذلك.

- استمرار بعض الفئات اللاوطنية (والمحايدة ظاهرياً) في لعب دور الوسيط والمهادن بين جماهيرنا وسلطة الاحتلال، واستمرارها في تأدية دور المهدئ في أي مواجهة ومعارضتها للتصعيد في العلن والسر على السواء.

خلاصة القول ان الحركة الوطنية الجماهيرية في الجولان استمرت في عطائها، رغماً عن الخلافات التي تتلاشى، ورغم العراقيل التي وضعها البعض عن قصد أو دون قصد. ولا بد من جماهير شعبنا أن تتدارك الواقع الذي آلت إليه الأمور في الجولان من انفلات وفوضى بسبب انعدام السلطة الوطنية المركزية والتوجيه وانعدام وجود القوة الرادعة لأي متسيب ومتهور لقضايا مجتمعنا، خاصة وأن البدائل التي من المفروض عليها ان تقوم بهذه الوظائف الاجتماعية عاجزة عن تقديم البرنامج والحلول، فالمؤسسة الدينية التي دفعها الشباب الوطني الواعي فيما مضى إلى أن يكون لها الدور الأكبر في صنع المواجهات مع المحتل اهتمت بعدها بالجوانب الاجتماعية السطحية والأمور الشخصية، متجاهلة حجم الأعباء وحجم الخطر الكبير الذي يتهدد أبناء مجتمعنا سياسياً وتربوياً واجتماعياً. والمؤسسات الوطنية اهتمت بمشاكلها وصراعاتها الداخلية وأهمل وتناسى أعضاؤها حجم وأهمية الدور والواجب الملقى على كواهلهم، خاصة في ظل ظروف محلية وعربية ودولية تستوجب منها الوقوف بحزم أمام محاولة السلطة الإسرائيلية ووسائل إعلامها الترويج لقيم الغرب والعولمة، ووصم النضال والمقاومة بالإرهاب، وتغذية القيم الاستهلاكية لتحل محل القيم التربوية والإنسانية التي ميزت مجتمعاتنا الشرقية عامة، وفرض سياسة التجهيل التام في المدارس والمؤسسات التعليمية في تاريخ منطقتنا، وتجاهل الاشراقات الحضارية التي يملكها شعبنا منذ حضارات إيبلا وبابل وأوغاريت، مرورا بمجد العرب، وليس انتهاء بمستقبلهم الوضاء في وحدتهم وحريتهم واستقلالهم.

إن إحدى وعشرين عاما مضت كانت عبارة عن حرب إرادات يومية، وخمس وثلاثون عاماً كانت عبارة عن اجتثاث لانتماء وأصول شعب عريق، وأربع وخمسون عاماً من عمر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كانت عبارة عن محو وتدمير شعب أصيل الانتماء، ومائة وخمسون عاماً من احتلال فرنسا للجزائر، وأربعمائة عام من احتلال الأتراك لأرضنا، لم ولن ينهوا هذا الشعب الأصيل الانتماء والعريق الجذور، ولن تستطع قوة مهما بلغت ومها طالت بها سنون القتل والتدمير من محو وسلخ وتغيير هذا الشعب المتجذر بأرضه، وستشع نيران نوره من جديد لتضيء مستقبل أجياله.


* نشرت في مجلة المقاومة "منظمة الشهيد عزت ابو جبل"
** أيمن أبو جبل هو مواطن سوري من الجولان المحتل، وأسير سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي