النبي الأمي




أول ما نزل عليه من القرآن: «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة وروى ذلك عن أبي موسى الأشعري، وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف، وقوله: «ما أنا بقارىء» أي إني أميٌّ فلا أقرأ الكتب. قال الزجاج: الأميّ الذي على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته، وفي التنزيل العزيز: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ} (البقرة: 78)، فمعنى الأميين في هذه الآية الذين لا معرفة لهم بقراءة ولا كتابة.
قال أبو إسحاق: معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلة أمه أي لا يكتب وهو في أنه لا يكتب أميّ لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه، أي على ما ولدته أمه عليه، وكانت الكتابة في العرب من أهل الطائف تعلموها من رجل من أهل الحيرة وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار، وفي الحديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أراد على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، وفي الحديث: «بعثت إلى أمة أمية» قيل للعرب الأميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، هذا معنى كلمة «أميّ» في اللغة العربية وهكذا كان يفهمها العرب.
قال تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157)، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) الآية، قال الفخر الرازي في «تفسيره»: «فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميّا، قال أهل التحقيق وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه:
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام - مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ - يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: 6).
الثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأوَّلين فحصّل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذا لاَّرْتَبَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48).
الثالث: أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات» اهـ.
وقد طالعت ما كتبه الذين تعرضوا لهذا البحث من الإفرنج الذين ترجموا حياة النبي فوجدت تخبطا مدهشا فقد بحث الأستاذ نولدكه الألماني في كتابه «تاريخ القرآن» هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة؟ فلم يجزم بشيء بيد أنه زعم أن لفظة «أميّ» المذكورة في القرآن لا تدل على أنه يجهل القراءة والكتابة بل تفيد أنه لا يعرف الأسفار القديمة.
والثابت من التاريخ والقرآن والحديث أن النبي ما كان يعرف القراءة والكتابة بالرغم من أن بعض المستشرقين يحاولون أن يثبتوا عكس ذلك من غير برهان، إنما هم يستنتجون بعقولهم، ليتعجبوا ما شاءوا من أُمِّيته ولكن يجب عليهم أن يعترفوا بأنه ما كان يعلم القراءة والكتابة. وجاء في «قاموس الإسلام»:
«ومع ذلك فمن المحقق أنه - النبي - كان يتظاهر بأنه يجهل القراءة والكتابة كي يجعل إنشاء القرآن معجزا».
فهل بعد ذلك تعسُّف لو كان رسول الله يقرأ أو يكتب لتحدث بذلك أصحابه أو أعداؤه، ولما أمكن أن يكون سرا مكتوما طول حياته خصوصا أن جميع صفات النبي وأعماله قد روتها الصحابة بالتفصيل حتى خصوصياته في منزله مع نسائه، على أن المنصفين من مؤرخي الإفرنج وفلاسفتهم قد اعترفوا بأُمِّيته فمن ذلك ما كتبه المسيو سيديو في كتابه «تاريخ العرب» الجزء الأول ص 59 من الطبعة الثانية:
«ولما كان (رسول الله غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة».
وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتاب «الأبطال» الذي عني بترجمته الأستاذ محمد السباعي رحمه الله:
«ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هي عيشة الصحراء وأحوالها».