ثم قال ص لمحمد بن مسلمة: «لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يولي الدبر يفتح الله عز وجل على يديه فيمكنه من قاتل أخيك».
وفي الغد بعث رسول الله ص إلى عليّ رضي الله عنه، وكان أرمد شديد الرمد، فجيء به إلى رسول الله ص وقد عصب عينيه فعقد له لواءه الأبيض وتفل في عينيه ودلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع، وقال عليّ رضي الله عنه: فما رمدت بعد يومئذ، ثم دعا النبي ص لعليّ رضي الله عنه بقوله: «اللهم اكفه الحر والبرد»، قال عليّ رضي الله عنه: فما وجدت بعد ذلك لا حرا ولا بردا، فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين ويلبس في البرد الشديد الثوب الخفيف فلا يبالي البرد.
فلما أخذ عليّ الراية قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال رسول الله ص «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن لم يطيعوا لك بذلك فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».
فخرج عليّ رضي الله عنه حتى ركز الراية تحت الحصن ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج إليه منهم الحارث أخو مرحب وكان مشهورا بالشجاعة فقتله عليّ وانهزم اليهود إلى الحصن (وهو حصن ناعم) ثم خرج إليه مرحب لابسا درعين ومتقلدا سيفين ومعتما بعمامتين، ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة، ومعه رمح فبرز له عليّ رضي الله عنه، ثم حمل مرحب على عَلِيّ وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ رضي الله عنه بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن ثم إن عليا ضرب مرحبا فتترس فوقع السيف على الترس فقده وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف بالأضراس.
وقيل: إن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا اليهودي انتقاما لأخيه محمود، والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليَّ بن أبي طالب هو الذي قتل مرحبا.
ثم خرج ياسر أخو مرحب يطلب البراز وكان أيضا من مشاهير فرسان اليهود وشجعانهم فخرج إليه الزبير رضي الله عنه وقتله، وعند ذلك قال له رسول الله «فداك عم وخال، لكل نبيّ حواريّ وحواريّ الزبير».
وكان أول حصن فتحه المسلمون وهو حصن الناعم من حصون النطاة على يد عليّ رضي الله عنه، ثم القموص، ولم يزل القتال ناشبا بين المسلمين واليهود، والمسلمون يفتحون حصونهم حصنا بعد حصن حتى أتموا فتحها جميعا.
وقُتل من اليهود 93 واستشهد من المسلمين 15 رجلا، وأخذ رسول الله ص كنز آل أبي الحقيق وكان من بني النضير الذي حمله حييّ بن أخطب لما أُجلِيَ عن المدينة، وأمر رسول الله بقتل كنانة وأخيه الربيع لأنهما أخفيا مال حييّ وقد علم رسول الله بمكان المال وأُتِيَ إليه به وقوّم بعشرة آلاف دينار، ووجد في الكنز أساور ودمالج وخلاخيل وأقرطة وخواتيم وعقود الجوهر والزمرد وعقود أظفار مجزع بالذهب، وأصاب المسلمين مجاعة قبل فتح الحصون، فلما فتح حصن الصعب، وكان أكثر الحصون طعاما، فيه شعير ومر ووَدَك أي سمن وزيت وشحم ومتاع وماشية وكان به 500 مقاتل، أمر النبي ص المسلمين أن يأكلوا ويعلفوا ولا يخرجوا به إلى بلادهم، وكان صاحب الغنائم أبا اليسر كعب بن زائد الأنصاري.
فتحت الحصون كلها عنوة إلا حصن الوطيح وحصن سُلالم فقد مكث المسلمون على حصارها أربعة عشر يوما فلم يخرج أحد منهم فهمّ رسول الله أن يحمل عليهم وأن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية والخروج من خيبر وأرضها بذراريهم وألا يصحب أحد منهم إلا ثوبا واحدا فصالحهم على ذلك وعلى أن ذمة الله تعالى ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئا، فتركوا ما لهم من أرض ومال وصفراء وبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا واحدا، ووجد المسلمون في الحصنين المذكورين 100 درع و 400 سيف و 1000 رمح و 500 قوس عربية بجعابها ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر رسول الله ص بدفعها إليهم وبهذه المناسبة نذكر ما كتبه الأستاذ ولفنسون في كتابه (تاريخ اليهود ببلاد العرب) صفحة 170:
«ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ممَّا جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ويذكرون بإزاء ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب.م، إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم وما فعله المتعصبون من النصارى في اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضا صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام» اهـ.
ونضيف إلى أن هذه ليست أول مرة تسامح فيها رسولُ الله ص وترك فيها صحائف اليهود المقدسة ولم يتعرض لها بسوء ولم يحقرها مع شدة عداوتهم له فقد سمح لهم قبل ذلك بأخذ صحفهم المقدسة المشتملة على وصية موسى لبني إسرائيل عند إجلائهم من المدينة في غزوة بني النضير كما تقدم.
ثم جمع رسول الله ص السبي فكان من نصيب دحية بن خليفة الكلبي صفية بنت حييّ وكانت امرأة حسناء فتنافس الناس فيها فجاء رجل إلى النبي ص وقال له: يا نبي الله أعطيت دحية صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال: «ادعوه بها» فلما نظر إليها النبي ص قال لدحية: «خذ جارية من السبي غيرها» فأخذ أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية وكانت صفية بنت حييّ من سبط هارون أخي موسى عليهما السلام فاصطفاها لنفسه وجعلها عند أم سليم التي هي أم أنس خادمه ص حتى اهتدت وأسلمت وكانت غاية في الجمال ثم أعتقها وتزوج بها وجعل عتقها صداقها وكان اسمها زينب فسماها رسول الله - صفية - وكان عمرها 17 عاما، وفي المواهب أنه ص أخذ صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم.
وفي هذه الغزوة سمت اليهودية الشاة للنبي ص وأهدتها إليه، واسمها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم وأخت مرحب انتقاما لقتل أبيها وزوجها وأخيها.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر واطمأن ص بعد فتحها أهديت للنبي ص شاة فيها سم فلاك فقال ص «ارفعوا أيديكم»، وأرسل إلى اليهودية فقال: «هل سممت هذه الشاة؟» قالت: نعم، قال لها: «ما حملك على ذلك؟» قالت: إن كنت نبيا يطلعك الله وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك، وقد استبان لي أنك صادق وأنا أشهد ومن حضرك أني عَلَى دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فعفا عنها ص ولم يعاقبها، وتوفي من أصحابه الذين أكلوا معه بشر بن البراء رضي الله عنه واحتجم رسول الله ص على كاهلِه من أجل الذي أكل من الشاة.
وبعد فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين وهم ستة عشر رجلا فتلقى النبي ص جعفرا وقبَّل جبهته وعانقه وقام له ثم قال: «ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر»، وقال ص لجعفر رضي الله عنه: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» فرقص جعفر رضي الله عنه لسروره بهذا الخطاب ولفرط ما أصابه من الفرح ولم ينكر عليه ص رقصه، وجعل ذلك أصلا لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع، وقدم من الحبشة أبو موسى الأشعري وأخواه أبو رهم وأبو بردة وجماعة من قومه فأسهم لهم ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهدها معه.
وقد قسم رسول الله ص غنائم خيبر فأعطى الراجل سهما والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء ثم دفع ص لأهل خيبر الأرض ليعملوا فيها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وقال لهم: إنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، ثم استمر على ذلك إلى خلافة عمر رضي الله عنه إلى أن وقعت منهم خيانة وغدْر لبعض المسلمين فأجلاهم إلى الشام بعد أن استشار في ذلك الصحابة رضي الله عنهم.
ولما انصرف رسول الله ص من خيبر فكان ببعض الطريق فلما كان آخر الليل قال: هل من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام؟ قال بلال: أنا يا رسول الله أحفظه عليك، فنزل رسول الله ص ونزل الناس فناموا وقام بلال يصلي فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه فغلبته عينه فنام فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس وكان رسول الله ص أول أصحابه هبّا، فقال: ماذا صنعت بنا يا بلال؟ قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: صدقت، ثم اقتاد رسول الله ص بعيره غير كثير ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى رسول الله ص بالناس فلما سلم أقبل على الناس فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى} (طه: 14)، وكان فتح خيبر في صفر.
تحريم لحوم الحمر الأهلية

نهى رسول الله ص في خيبر عن أكل لحوم الحُمر الأهلية فإنهم أصابهم جوع فوجدوا ثلاثين حمارا خرجت من بعض الحصون فأخذها رهط من المسلمين وذبحوها وجعلوا لحومها في القدور والبرام وجعلوا يطبخونها للأكل فمرّ بهم النبي ص فسألهم عما في القدور والبرام، قالوا: لحوم الحمر الإنسية، أي المخالطة للإنس، فنهاهم ص عن أكلها حتى إن القدور أُكفئت وهي تفور، وروى البخاري مثل ذلك وأمرهم بغسل القدور.
إصابة الصحابة بالحمى في خيبر

لما قدم رسول الله خيبر، كان التمر أخضر فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله ص قال: «بردوا لها الماء في الشنان - أي القرب - ثم صبوا عليكم منه بين أذانَي الفجر واذكروا اسم الله عليه»، ففعلوا فذهبت عنهم الحمى.
هذا ما أصاب الصحابة من أكل التمر الأخضر، وفي مصر يُباع التمر الأخضر قبل نضج البلح فيمرض آكلوه بالحمى ولا سيّما الأطفال فيجب على الحكومة تحريم بيعه بتاتا قبل نضجه فإنه عسر الهضم.