أوشهنج

فأوّل من يحفظ اسمه وسيرته من الملوك أوشهنج وأنا ذاكره والملوك بعده على توال ونسق. فإن كان لواحد منهم سيرة محمودة أو تدبير مرضيّ، ذكرته وذكرت سائر ما ضمنته في صدر الكتاب، ومن لم يحفظ له سيرة، ذكرت اسمه فقط، ليكون نظام التاريخ محفوظا، فأقول:
إنّ أوشهنج هذا هو الذي خلف جدّه جيومرت وجمع الأقاليم السبعة، ورتّب الملك، ونظم الأعمال، ولقّب ب « فيشداذ »، وتفسيره بالعربية: أوّل سيرة العدل. ويقال: إنّه كان بعد الطوفان بمائتي سنة. وهو أوّل من عرف قطع الشجر، وبنى به، واستخرج المعادن وبنى مدينتي بابل والسوس. وكان فاضلا سائسا محمودا، ونزل الهند، ثم تنقّل في البلاد، وعقد التاج، وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أن نفى أهل الفساد والدّعارة من البلدان إلى البراري، وألجأهم إلى رؤوس الجبال وجزائر البحار، وطهّر منهم الممالك، واستخدم من كان يستصلحه منهم، وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الصلاح وأحسن رعاية الأمور، إلى أن انتهى ملكه إلى طهومرت بعده.
طهومرت

وهو من ولد أوشهنج، وبينهما عدّة آباء، وسلك سيرة جدّه، وتنقّل في البلدان، وبنى الموضع الذي جدّده بعد ذلك سابور من فارس، ونزله، وطلب الدعّار ونفى الشياطين أعنى الأشرار. وهو أول من كتب بالفارسية. وسلك سبيل جدّه، فاستمرّ نظام الملك على حال واحدة من عموم الصلاح، واستقامة أحوال الجند والرعية، إلى أن ملك بعده جمّ شيذ.
جم شيذ

وهو أخو طهمورت، وتفسير « شيذ » الشعاع. لأنه كان وضيئا، جميلا. وملك الأقاليم، وسلك السيرة المتقدمة، وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب، وأمر أن يلزم كل أحد طبقته. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحروب والشرط، وكتب عليه « الأناة »، وخاتما للخراج، وجباية الأموال، وكتب عليه « العمارة »، وخاتما للبريد، وكتب عليه « الوحا » وخاتما للمظالم، وكتب عليه « العدل ». فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام، وألزم من غلبه من أهل الفساد والشياطين الأعمال الصّعبة، وأذلّهم بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الكلس والجصّ والبناء والطين، وعمل المعادن، وغير ذلك من الأمور الصعبة. فحسنت سيرته، وخافه أهل العيث والفساد، بما ألزمهم من الأعمال الشاقّة. وأحدث النوروز، وجعله عيدا وأمر الناس بالتنعم فيه. ثم إنّه بعد ذلك، بدّل سيرته. فكان من نتيجة فعله وسوء عاقبته، أن دخل الوهن في الممالك، وتجاسر أهل الفساد عليه.
فمما حكى من تبديل سيرته، إظهار الكبر والجبرية على وزرائه وكتّابه وقوّاده، وإيثار التخلّى والإغرام باللذّات، وترك مراعاة كثير من السياسيات التي كان يتولّاها بنفسه. فأحسّ بذلك بيوراسب - وهو الذي تسمّيه العرب الضحّاك - وعلم استيحاش الناس منه، وتنكّر خواص أصحابه له، فدسّ إلى رجاله من استصلحه لنفسه، ودبّر عليه حتى قوى، ثم قصده، فهرب منه جمّ وتبعه حتى ظفر به، فنكل به، وأشره بمئشار. وقد كان جمّ تنقّل في البلدان قبل ذلك، إلى أن جرى عليه ما جرى.
وكان الضحّاك هذا - على ما تزعم الفرس - من ولد جيومرت، وبينه وبين جيومرت من الآباء « تاج » وإليه تنتسب العرب، فيقال لهم: « تاجى » وهم يلقّبون بيوراسب ب « الازدهاق ». وقوّم منهم يزعمون أن جمّ شيذ زوّج أخته من بعض أشراف أهل بيته وملّكه اليمن، فولدت له الضحّاك. وأما العرب فينسبون الضحّاك غير هذه النسبة. ورغم قوم أنّه نمرود. وزعم آخرون أنّ نمرود كان عاملا من قبله على كثير من أعماله، ولا ينبغي أن نذكر من أمره فيما قصدنا له، أكثر من هذا النّبذ، لئلّا ننقطع عن غرضنا.
بيوراسب وما جرى بينه وبين كابي الإصبهاني

ولما ملك بيوراسب ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلّها، فسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل والصلب، ليهابه الناس، وليمحو عن صدور الناس سياسة من تقدّمه وذكرهم وسنّتهم. فسنّ العشور، واتخذ المغنّين والملهين. وكان على منكبه سلعتان يحركهما إذا شاء، كما يحرّك يديه.
فادّعى أنهما حيّتان، تهويلا على ضعفاء الناس، وأغبيائهم، وكان يسترهما بثيابه.
فلما طالت أيامه وعمّ الناس جوره، كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بإصبهان رجل يقال له: « كابى » من أثناء العامة، وكان الضحّاك قتل له ابنين. فلما بلغ الجزع من كابى هذا على ولديه ما بلغ، أخذ عصا، فعلّق بطرفها جرابا. - ويقال: إنّه كان حدّادا وإنّ الذي علّقه نطع كان يتوقّى به من النار - فجعله علما ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير، لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور. فاستفحل أمره وقوى، وتفأل الفرس بذلك العلم، وعظّموا أمره، وزادوه ورصّعوه بعد ذلك بالجوهر، حتى جعله ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبرّكون به، وسمّوه « درفش كابيان ». فكانوا لا يسيّرونه إلّا في الأمور العظام.
ولما استعلى كابى الإصبهاني، وأشرف على بيوراسب، هرب عن منازله.
واجتمع أشراف الناس على كابى، وناظروه في الملك. فقال لهم كابى: إنّه لا يتعرّض للملك، لأنه ليس من أهله. وأمرهم أن يملّكوا بعض ولد جمّ. وكان أفريذون بن أثفيان مستخفيا من الضحّاك في بعض النواحي، فوافى هو ومن معه إلى كابى، فاستبشر الناس به، لأنّه كان مرشّحا للملك. فصار كابى أحد أعوان أفريذون حتى احتوى على منازل بيوراسب، وحتى تبعه وأسره بدنباوند، فقتله.
ولم يسمع من أمور الضحّاك بشيء يستحسن، ولا نقل من أخباره ما يكتب غير شيء واحد. وهو أنّ بليّته لما اشتدّت، وطالت أيّامه وتراسل وجوه الناس في أمره، وأجمعوا على المصير إليه من البلدان، وافى بابه العظماء والوجوه من النواحي والأقطار، وتناظروا في الدخول عليه والتأتّى له واستعطافه، وأجمعوا على تقديم كابى الإصبهاني، وذلك لما رأوا من تحرّقه على ولديه، وجرأته على الكلام. فلما اجتمعوا ببابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا يقدمهم كابى.
فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام.
ثم قال:
« أسلّم عليك سلام من يملك الأقاليم كلّها، أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ » فقال: « بل سلّم سلام من يملك الأقاليم كلّها، فإني ربّ الأرض. » فقال له كابى: « فإن كنت مالك الأقاليم كلّها، فما بالك خصصت بتحاملك ومؤنك وإساءتك ناحية كذا؟ وهلّا قسمت أمر كذا بين الأقاليم؟ » ثم عدّد أشياء، وجرّد له الصّدق، حتى انخزل له الضحّاك وأقرّ، ووعد الناس بما يحبّون، وأمرهم بالانصراف ليتّدعوا، ثم يعودوا إليه ليقضى حاجاتهم.
وكانت له أم فاحشة بذيئة جبّارة، وكانت تسمع كلامهم لمّا دخلوا عليه، فاغتاظت منهم وأنكرت إقراره للقوم. فكلّمت بيوراسب منكرة عليه وقالت:
« هلّا دمّرت عليهم وأمرت بهم؟ »
فقال لها الضحّاك على عتوّه:
« إنك لم تفكّرى في أمر، إلّا وقد سبقت إليه. إنّ القوم بدهونى بالحق. فلما هممت بالسطوة بهم، وقف الحقّ بيني وبينهم، واعترض كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت. » فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله، ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.
ثم ملك أفريذون

وهو من ولد جمّ. ويقال: إنّه كان التاسع من ولده. فردّ مظالم الناس، وأمر بالإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما غصب عليه الضحّاك من الأرضين وغيرها، فردّها كلّها على أهلها، إلّا ما لم يجد له أهلا، فإنّه وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان موثرا للعلم وأهله، وكان صاحب طبّ ونجوم وفلسفة. وكان له ثلاثة أولاد: سرم، وطوج، وإيرج. فخشي ألّا يتّفقوا بعده. وأن يبغى بعضهم على بعض. فظنّ أنّه إذا قسم الملك بينهم أثلاثا في حياته، بقي الأمر بعده على انتظام وصلاح. فجعل الروم وناحية المغرب لسرم، والترك والصين لطوج، والعراق والهند لإيرج وهو صاحب التاج والسرير، فلمّا مات أفريذون، وثب طوج وسرم بإيرج، فقتلاه، وملكا الأرض بينهما.
وأفريذون أوّل من تسمّى ب « كي ». فكان يقال له: كي أفريذون، وهي كلمة تعنى التنزيه، أى: روحانى، أى: هو منزّه متصل بالروحانية. وكان جسيما وسيما حسن البهاء، محربا عظيم القوة.
ويقال: إنّ بيوراسب قال له لمّا ظفر به:
« لا تقتلني بجدّك جمّ. » فقال له أفريذون منكرا لقوله:
« لقد سمت بك نفسك وهمّتك، وعظمت في نفسك، حين قدرتها لهذا. جدّى كان أعظم قدرا من أن يكون مثلك كفؤا له في القود، ولكنى أقتلك بثور كان في دار جدّى. » وأفريذون أوّل من عرف ذلّل الفيلة، وقاتل بها الأعداء. ثم قسم الأرض كما ذكرنا بين أولاده. ولأجل ما صار بين أولاده من العداوة، بقيت الذحول بين الترك، وملوك إيرانشهر، والروم، وطلب بعضهم بعضا بالدماء والترات.
وكان إبراهيم النبي في أيام الضحّاك. ولذلك زعم قوم أنّه نمرود وأن نمرود عامل من عمّاله. ولم ينقل من أخباره شيء من النمط الذي هممنا بإيراده في هذا الكتاب، إلّا أشياء حكاها مانى، وهي بعيدة من الحقّ، فلذلك لم أوردها، ولم أتعرّض لذكرها.
منوشهر

فكان من سوء عاقبة وثوب طوج وسرم بإيرج وقتلهما إيّاه، أن نشأ ابن لإيرج بن أفريذون يقال له: منوشهر حقد على طوج، فدبّر عليه، إلى أن قاومه، وتغلّب على ملك أبيه إيرج، ثم نشأ ولد لطوج التركي، فنفى منوشهر عن بلاده. وكانت بينهما حروب لم ينقل منها شيء يستفاد منه تجربة. ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه.
وكان منوشهر موصوفا بالعدل والإحسان. وهو أوّل من عرف خندق الخنادق وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة، فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها عبيدا وخولا، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. ولما قوى سار نحو التّرك وطالب دم جدّه إيرج بن أفريذون، فقتل طوج بن أفريذون وأخاه سرما، وأدرك ثأره وانصرف.
ثم نشأ فراسياب بن ترك الذي ينسب إليه الترك من ولد طوج بن أفريذون، فحارب منوشهر، وحاصره بطبرستان. ثم إن منوشهر وفراسياب اصطلحا، وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ - والفرس تحكى في ذلك حكايات لا فائدة في إيرادها - فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوشهر.
خطبة منوشهر