إن يظفروا يجوّزوا فينا الغرل ** إيها فداء لكم بنى عجل
وتقول أيضا:
إن تهزموا نعانق ** ونفرش النّمارق
أو تهربوا نفارق ** فراق غير وامق
فقاتلوهم بالجبابات يوما، فعطش العجم، فمالوا إلى بطحاء ذي قار.
فأرسلت إياد إلى بكر سرّا - وكانوا مع إياس عونا على بكر -:
« أيّ الأمرين أعجب إليكم: أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم، ونفرّ حين تتلاقون؟ » قالوا: « بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم. » فصبّحتهم بكر بن وائل والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتل. فقال يزيد بن حمار السكوني وكان حليفا لبنى شيبان:
« يا بنى شيبان، أطيعونى واكمنوا لهم كمينا. » ففعلوا، فكمنوا في مكان من ذي قار يسمّى إلى اليوم « الخبء. » فاجتلدوا على ميمنة إياس بن قبيصة وفيها الهامرز، وعلى ميسرته وفيها الجلابزين، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيبانى، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى وحنظلة يرتجز ويقول:
قد شاع أشياعكم فجدّوا ** ما علّتى وأنا شيخ جلد
والقوس فيها وتر عردّ ** مثل ذراع البكر أو أشدّ
ثم صيّروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة. فمال إلى مارية ابنته وهي أمّ عشرة نفر، فقطع وضينها، فوقعت على الأرض، وقطع وضن النساء، فوقعن على الأرض.
ونادت بنت القرين الشيبانيّة حين وقعت النساء إلى الأرض:
ويها بنى شيبان صفّا بعد صفّ ** إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من قبل مناكبهم، لتخفّ أيديهم بالضرب، فجالدوهم، ونادى الهامرز لمّا رأى جدّ القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت:
« مرد ومرد! » فقال برد بن حارثة اليشكري: « ما يقول؟ » قال: « يدعو إلى البراز ويقول: رجل ورجل. » فقال: « وأبيكم لقد أنصف. » وبرز له برد، فلم يلبث برد أن تمكّن من الهامرز فقتله، ونادى حنظلة بن ثعلبة:
« يا قوم، لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشّاب. »
فحملت ميسرة بكر - وعليها حنظلة - على ميمنة الجيش، وقد قتل الهامرز رئيسهم، قتله برد، وحملت ميمنة بكر - وعليها يزيد بن مسهر - على ميسرة الجيش، وعليهم الجلابزين، وخرج الكمين من خبء ذي قار من ورائهم [ وعليهم ] يزيد بن حمار، فشدّوا على قلب الجيش، وفيهم إياس بن قبيصة وولّت إياد منهزمة كما وعدتهم. وانهزمت الفرس واتّبعوهم يسعون، لم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتى تعارفوا « بأدم» - موضع قريب من ذي قار - فوجد ثلاثون فارسا، من عجل ومن سائر بكر ستون فارسا وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة، وذلّت الفرس بعد ذلك، وذلّ أمرهم.
ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم

كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة أصحابه في جيش جرّار إلى بلاد الروم فنكا فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدرب في آثارهم فعظم أمره وخافه أبرويز. فكاتبه بكتابين أمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنّه لما تدبّر أمره وأجال الرأي، لم يجد من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل، إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له:
« أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم، فإن خفّ لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة، فاسكت عليه أيّاما، ثم أعلمه أنّ الكتاب الثاني ورد عليك، وأوصله إليه ليقيم بموضعه. » فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب إليه، فلمّا قرأه قال:
« إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لي وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في بحر العدوّ. » فدعا الأصحاب وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام، أوصل الكتاب الثاني بالمقام، وأوهمه أنّ رسولا ورد به، فلمّا قرأه قال: « هذا تخليط. » ولم يقع منه موقعا، ودسّ إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما، على أن يخلّى الطريق لملك الروم، حتى يدخل بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما تغلّب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس.
فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحّى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسياء، وكسرى غير معدّ، وجنده متفرّقون في أعماله. فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال:
« هذا وقت حيلة لا وقت شدّة. » وجعل ينكت في الأرض مليّا. ثم دعا برقّ، وكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه:
« قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم، وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتى إذا تولّج في بلادنا أخذته من أمامه وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تمّ في هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك في الإيقاع به يوم كذا! » ثم دعا راهبا كان في دير بجانب مدينته وقال له: « أيّ جار كنت لك؟ » قال: « أفضل جار. » قال: « قد بدت لنا إليك حاجة. » قال الراهب: « الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك. » قال كسرى: « تحمل لي كتابا إلى فلان صاحبي؟ » قال: « نعم. » قال كسرى: « فإنّك تجتاز بأصحابك النصارى، فأخفه. » قال: « نعم. » فلمّا ولّى عنه الراهب قال له كسرى:
« أعلمت ما في الكتاب؟ » قال: « لا. » قال: « فلا تحمله حتى تعلم ما فيه. » فلمّا قرأه أدخله في جيبه ثم مضى.
فلمّا صار في عسكر الروم ونظر إلى الصلبان والقسيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلبه لهم وأشفق ممّا خاف أن يقع بهم. وقال في نفسه:
« أنا شرّ الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق. » فصاح: « أنا لم يحمّلنى كسرى رسالة ولا معي كتاب. » فأخذوه ووجدوا الكتاب معه.
وقد كان كسرى وجّه رسولا قبل ذلك اختصر الطريق حتى مرّ بعسكر الروم وكأنّه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه:
« إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلّى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه، وآخذه أنا من خلفه وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامى وقت خروجه إليه. » فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال:
« قد عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن على كسرى. » ووافاه أبرويز في من أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا، فاتّبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم، فأحبّ أن يجلّى نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبّر، فخرج خلف الروم الهاربين، فلم يسلم منهم إلّا القليل