فلمّا طال القتال، نظر المثنى إلى نفر من الثعلبيّين نصارى وفيهم جلّاب خيل قدموا مع أنس بن هليل. فقال: « يا أنس، إنّك امرؤ عربيّ وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران، فاحمل معي. » وقال لابن [ مردى ] الفهر مثل ذلك. فأجابوه إليه. فحمل المثنى على مهران حتى أزاله، فدخل في ميمنته. ثم خالطوهم واجتمع القلبان، وثار الغبار والمجنّبات تقتتل، لا يفرغون لنصر أمرائهم، ولا يستطيعون ذلك، لا المشركون ولا المسلمون. وقتل غلام تغلبيّ نصراني مهران. ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر وقد فنى قلب المشركين. فأما المجنّبات فهي بحالها، فجعل المثنى يدعو لهم، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول: « المثنى [ يقول ]: عادتكم في أمثالهم! » حتى هزموهم. فسابقهم المثنّى إلى الجسر، فسبقهم وأخذ الأعاجم يفترقون بشاطئ الفرات مصعدين ومصوّبين، واعتورتهم خيول المسلمين فجعلهم جثاء.
فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمّة منها، كانوا يحرزونها مائة ألف، وما عفى عليها إلّا ادّفان البيوت.
فيحكى أهل تلك الناحية: أنهم كانوا يأتون البويب، فيرون في ما بين موضع السكون اليوم وبنى سليم عظاما بيضا تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم، يعتبر بها.
وسمّى يوم البويب يوم الأعشار: أحصى مائة رجل قتل كل واحد منهم عشرة يومئذ.
وندم المثنى على أخذه الجسر، وقال: « قد عجزت عجزة وقى الله شرّها بمسابقتى القوم إلى الجسر حتى أحرجتهم وإني غير عائد. فلا تعودوا ولا تعتدوا بي أيها الناس، فإنّها كانت زلّة، ولا ينبغي إحراج أحد إلّا من لا يقوى على امتناع. » وكان المثنى أصاب نزل مهران غنما، وبقرا، ودقيقا، فبعثوا إلى عيالات الناس، وكانوا خلّفوهنّ بالقوادس مع عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة. فلما رفعوا للنساء فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة. فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد. فقال عمرو: « هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش أن يكنّ. » وبشّرهنّ بالفلح.
وعقد المثنى الجسر، وسرّح في طلب المنهزمين أصحاب الجسر، فأصابوا غنائم كثيرة وتبعوهم. وكتب القوّاد والرؤساء منهم إلى المثنى: « إنّ الله سلّم ووجّه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، أفتأذن لنا في الإقدام. » فأذن لهم. فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصّن منهم أهل ساباط، واستمكنوا من الغارة على من بينهم وبين دجلة، ومخروها لا يخافون كيدا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم، واعتصموا بساباط.
المثنى يغير على قرية بغداد غارة

ثم إنّ المثنى بلغه خبر قرية يأتيها تجّار مدائن كسرى والسواد، ويجتمعون بها في كل سنة مرّة ومعهم فيها من الأموال كبيت المال، وتلك أيّام سوقهم.
فاستدعى المثنى من وثق به من أهل الحيرة فاستشاره.
فقال له: « إن أنت قدرت أن تغير عليهم وهم لا يشعرون، أصبت فيها مالا فيه غنى المسلمين دهرهم وقووا على أعدائهم أبدا. » قال: « وكم بينها وبين مدائن كسرى؟ » قال: « بعض يوم أو عامّة يوم. » قال: « فكيف لي بها؟ » قالوا: نشير عليك أن تأخذ طريق البرّ حتى تنتهي إلى الخنافس، فإنّ أهل الأنبار يضربون إليها ويخبرونك فيأمنون، وتأخذ دهاقين الأنبار بالأدلّاء، وتسير سواد ليلتك حتى تأتيهم صبحا، فتصبّحهم غارة. » ففعل المثنى ذلك، فلما انتهى إلى الأنبار، تحصّن منه صاحبها وهو لا يدرى من هو، وذلك ليلا. فلمّا عرفه نزل إليه، فأطعمه المثنى واستكتمه وسأله الأدلّاء إلى بغداد حتى يعبر منها إلى المدائن.
قال: « أنا أجيء معك. » قال: لا أريدك معي، ابعث معي من هو أدلّ منك. » فزوّدهم الأطعمة والأعلاف، وبعث معهم الأدلّاء، فساروا.
فلما كانوا بالنصف، قال المثنى: « كم بيني وبين هذه القرية بغداد؟ » قال: « خمسة فراسخ. » فندب من أصحابه جماعة للحرس، وبعث طلائع فحسبوا الناس لئلّا يسبق الخبر وقال: « أيّها الناس، أطعموا وتوضّئوا وتهيّئوا. » ثم سرى آخر الليل فصبّحهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فأخذوا ما شاءوا.
وقال المثنى: « لا تأخذوا إلّا الذهب والفضة والحرّ من كل شيء. » ثم انكفأ راجعا حتى نزل بنهر السّيلحين بالأنبار، فسمع همسا في ما بين الناس: « ما أسرع القوم في طلبنا. » فخطبهم وقال: « أيها الناس، احمدوا الله وتناجوا بالبرّ والتقوى، ولا تناجوا بالإثم والعدوان، انظروا في الأمور وقدّروها، ثم تكلّموا. ما بلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم إنّ للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل. ولو طلبكم المحامير من رأى العين ما أدركوكم وأنتم على العراب، حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم، ولو أدركوكم لقاتلتهم ورجوت النصر والأجر. فثقوا بالله، وأحسنوا به الظنّ، فقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة وهم أعدّ منكم، وسأخبركم عني أنّ أبا بكر أوصانا أن نقلّل العرجة ونسرع الكرّة في الغارات ».
ثم أقبل بهم ومعهم الأدلّاء حتى انتهى بهم إلى الأنبار.
ثم إنّ المثنى أغار على حيّ من تغلب على دجلة، وعلى قوم كانوا بتكريت، وأصابوا ما شاءوا من النعم.
القادسية وأيامها

فقال أهل فارس لرستم والفيرزان: « إنّه لم يبرح منكما الاختلاف حتى أوهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم، ولم يبلغ من خطركما أن نقرّكما على هذا الرأي وأن تعرّضا فارس للهلكة. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلّا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأنّ بكما قبل أن يشمت شامت، ونشفينّ نفوسنا منكما. »