









تدبيره دبره يزدجرد للإسراع في تسلم أنباء الحرب
وكان يزدجرد وضع بينه وبين رستم رجالا: فأوّلهم على باب إيوانه والآخر على دعوة منه، بحيث يسمعه، والآخر كذلك إلى أن انتظم بينه وبين رستم بالرجال. فلما نزل رستم بساباط قال الرجل الذي بساباط: « نزل! » وقال الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يقوله من يلي الإيوان ويسمعه يزدجرد. فكان كلّما ارتحل، أو نزل، أو حدث أمر، جرى الأمر فيه على ما شرحته، وترك البرد.
وكان ذلك شأنه إلى أن انقضى الحرب.
وكان بسعد حبون وخراجات يومئذ لا يستطيع أن يركب. فإنّما هو على وجهه، في صدره وسادة وهو مكبّ عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرّقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة، وكان الصف إلى جانب القصر.
فشغّب قوم من وجوه الناس على سعد، ولم يرضوا بما صنع خالد. فهمّ بهم سعد وشتمهم. ثم خطبهم، واعتذر إليهم، فرضوا، وأمر الرؤساء حتى خطبوا في من يلونهم، ففعلوا، وتحاضّوا وتواصوا.
فأما الفرس فإنّهم تعاهدوا، وتواصوا، واقترنوا بالسلاسل. فكان المقترنون ثلاثين ألفا، وجملتهم مائة وعشرون ألفا، وثلاثون فيلا عليها المقاتلة، وفيلة عليها الملوك وقوف لا تقاتل.
يوم أرماث
وأمر سعد فقرئ سورة الجهاد. وقال سعد: « إني مكبّر، فإذا سمعتم التكبيرة الأولى فشدّوا شسوع نعالكم، فإذا كبّرت الثانية فتهيّأوا، فإذا كبّرت الثالثة فشدّوا النواجذ على الأضراس واحملوا. » فلمّا فرغ القرّاء، كبّر سعد وكبّر الناس، ثم ثنّى فتهيّأ الناس، ثم ثلّث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال.
وخرج أمثالهم من أهل فارس، فاعتوروا الضرب والطعن. وخرج هرمز إلى غالب بن عبد الله - وكان هرمز من ملوك الباب متوّجا - فأسره غالب أسرا، وجاء به إلى سعد، فأدخل، وانصرف إلى المطاردة. فبينا الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة، قام صاحب رجّالة بنى نهد، فقال: « يا بنى نهد، إنّما سمّيتم نهدا لتفعلوا. » فبعث إليه سعد خالد بن عرفطة: « والله لتكفّنّ، أو لأوّلينّ عملك غيرك. » ولما تطاردت الفرسان خرج رجل ينادى: « مرد ومرد ». فانتدب له عمرو بن معدى كرب، فرماه الفارسي بنشّابة، فما أخطأت سئة قوسه - وكان متنكّبها - فحمل عليه عمرو، فاعتنقه، ثم أخذ منطقته فاحتمله فوضعه بين يديه. ثم جاء به حتى إذا دنا منّا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه.
ثم قال: « أنا هكذا، فاصنعوا بهم، إنّما الفارسي إذا فقد قوسه تيس! » فقلنا: « يا با ثور من يستطيع أن يصنع كما تصنع؟ » وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فبارزه، فما لبّثه طليحة أن قتله. وقام الأشعث بن قيس، فقال: « يا معشر كندة! لله درّ بنى أسد، أيّ فرى يفرون، وأيّ هذّ يهذّون! » وكذلك كانوا، لأنّهم حبسوا الفيلة بالضرب والطعن.
«.. يا معشر كندة! أراكم تنتظرون من يكفيكم الناس. العرب منذ اليوم يقاتلون وأنتم جثاة على الرّكب تنتظرون. » فوثب إليه عدّة، وقالوا: « عثر جدّك إنّك لتؤبّخنا ونحن أحسن الناس موقفا، ها نحن معك. » فنهد ونهدوا فأزالوا من بإزائهم. ولما رأى فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد، رموهم بحدّهم كلّه، وبدروا الشدّة على المسلمين عليهم ذو الحاجب والجالنوس والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد. فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم الفيلة قد ثبتوا لهم. وكبّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر، فقال: « يا معشر بنى تميم. ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما لكم لهذه الفيلة من حيلة؟ » قالوا: « بلى والله. » ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين أهل ثقافة، فقال لهم: « يا معشر الرماة، ذبّوا ركبان الفيلة بالنّبل. » وقال: « يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة، فقطعوا وضنها. » وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد. وأقدم أصحاب عاصم بن عمرو على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وأذناب توابيتها، فقطّعوا وضنها وارتفعت عن ظهورها. فما بقي لهم يومئذ فيل إلّا عرّى وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، فردّوا عنهم فارس إلى مواقفهم، ولم يزالوا يقتتلون حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهب هدأة من الليل. ثم رجع هؤلاء ورجع هؤلاء، وأصيب في أسد تلك العشيّة خمسمائة، وكانوا ردءا للناس. وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم. فهذا يومها الأوّل وهو يوم أرماث.
يوم أغواث
ولما أصبح القوم على تعبئة من غد وقفوا. ووكّل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب، وإسلام الرثيث إلى النساء، يقمن عليهم، والناس ينتظرون بالجملة نقل الرثيث. فلمّا استقلّت بهم الإبل، وتوجّهت بهم نحو العذيب، طلعت بوادي الخيل من الشام، الذين صرفهم عمر بعد دمشق إلى العراق. وكان أبو عبيدة، لما قدم عليه كتاب عمر: أن يصرف أهل العراق أصحاب خالد بن الوليد ولم يذكر خالدا، ضنّ بخالد، واحتبسه عنده، وسرّح الجيش - وهم ستّة آلاف - وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فعجّله أمامه، فانجذب القعقاع وطوى وتعجّل، فتقدّم على الناس يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه وهم ألف، أن يتقطّعوا أعشارا: فكلما بلغ عشرة مدى البصر، سرّحوا في آثارهم عشرة. فتقدّم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس، فسلّم عليهم، وبشّرهم بالجنود، وقال: « أيها الناس! إني قد جئتكم في قوم والله لو كانوا بمكانكم ثم أحسّوكم، لحسدوكم بحظوتها، وحالوا أن يظفروا بها دونكم. فاصنعوا كما أصنع. » فنادى: « من يبارز؟ » فسكن الناس، وتذاكروا قول أبي بكر فيه: « لا يهزم جيش فيه مثل هذا. » فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: « من أنت؟ » قال: « أنا بهمن جاذويه. » فنادى: « يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب الجسر. » ثم اجتلدا، فقتله القعقاع.
وجعلت خيل القعقاع ترد قطعا إلى الليل وينشط الناس، فكأن لم يكن بالأمس مصيبة، وكأنّها استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع، وانكسرت الفرس لذلك.
ونادى القعقاع أيضا: « من ينازل؟ » فخرج إليه رجلان أحدهما الفيرزان والآخر البندوان. فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، فبادر القعقاع الفيرزان فضربه، فإذا رأسه مطروح، وبادر ابن ظبيان البندوان فضربه، فإذا رأسه كذلك، وتورّدهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول: « يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنّما يحصد الناس بها. » فتواصى الناس واجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئا مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، لأنّ توابيتها تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا، فلم ترتفع حتى كان من الغد. وفي هذا اليوم حمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة من الرجّالة على إبل قد ألبسوها، فهي مجلّلة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم فحموهم، وأمرهم أن يحملوها على خيلهم بين الصفّين يتشبّهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث. فجعلت الإبل لا تصمد لقليل ولا كثير إلّا نفرت خيلهم، وركبتهم سيوف المسلمين. فلمّا رأوا ذلك استنّوا بهم، فلقى أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وجعل رجل من بنى تميم يتعرّض للشهادة، فأبطأت عليه حتى تعرّض لرستم يريده، فأصيب دونه.
وخرج رجل من فارس ينادى: « من يبارز؟ » فبرز له علباء، فأسجده ونفحه الفارسي فأمعاه، فلم يستطع القيام، فعالجها، فلم يتأتّ له حتى مرّ به رجل من المسلمين، فقال: « يا هذا أعنّى على بطني. » فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صفّ فارس ما يلتفت على المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صفّ فارس، وقال:
أرجو بها من ربّنا ثوابا ** قد كنت [ ممّن ] أحسن الضّرابا
وخرج رجل من أهل فارس ينادى: « من يبارز؟ » فبرز له الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر من فارس فقتله، ثم برز آخر فقتله، فأحاطت به فوارس منهم، فصرعوه، وندر سلاحه عنه، فأخذوه، فجعل يغبّر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه وقال:
[ و ] إن تأخذوا بزّى، فإني مجرّب ** خروج من الغمّاء، محتضر النّصر
وإني لحام من وراء عشيرتي ** ركوب لآثار الهوى محفل الأمر
وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة من الخيل حمل حملة فيصيب فيها. فقتل في يوم أغواث ثلاثين فارسا، وكان آخرهم بزرجمهر الهمداني، وقال القعقاع فيه:
حبوته جيّاشة بالنّفس ** هدّارة مثل شعاع الشّمس
في يوم أغواث قليل الفرس ** أنخس بالقوم أشدّ النّخس
حتى تفيظ معشرى ونفسي
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)