اتفاق جرى يوم عماس ويحذر أن يقع مثله

ومن الاتفاق الذي جرى في يوم عماس ويحذر أن يقع مثله: أنّ رجلا من الفرس خرج بين الصفّين فهدر وشقشق ودعا إلى البراز.
قال: فبرز رجل منّا يقال له: شبر بن علقمة، وكان قصيرا دميما، وقال: « يا معشر المسلمين! قد أنصفكم الرجل. » فلم يجبه ولم يخرج إليه أحد.
فقال: « أما والله، لولا أن يزدرونى لخرجت إليه. » فلمّا رأى أنّ المسلمين لا يمنعونه أخذ سيفه وحجفته، وتقدّم. فلمّا رآه الفارسي نزل إليه، فاحتمله، وجلس على صدره وأخذ سيفه ليذبحه وقد كان شدّ مقود فرسه بمنطقته. فلمّا سلّ السيف حاص الفرس حيصة، فجذبه المقود، فقلبه عنه. فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه. وجعل أصحابه يصيحون به، فقال: « صيحوا ما بدا لكم، فوالله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه. » فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال: « إذا كان حين الظهر فائتني. » فوافاه، فحمد سعد الله، وأثنى عليه، ثم قال: « إني قد رأيت أن أنفّله إيّاه، وكلّ من سلب سلبا فهو له. » فباعه باثنى عشر ألفا.
ما جرى في يوم عماس أيضا

ولما عادت الفيلة لفعلها يوم أرماث تفرّق بين الكتائب، راسل قوما ممن أسلموا من الفرس، فدخلوا عليه، فسألهم عن الفيلة: « هل لها مقاتل؟ » قالوا: « نعم! المشافر والعيون. لا ينتفع بها بعدها. » فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابني مذعور: « اكفياني الأبيض. » وذاك أنّ الفيلة كانت تألفه، وكان بإزائهما، وأرسل إلى حمّال والربّيل: « اكفيانى الأجرب» - وكان بازائهما.
فأما القعقاع وعاصم فانّهما أخذا رمحين أصمّين ليّنين، ثم دبّا في خيل ورجل، وقالا: « اكتنفوه لتحيّروه. »
فنظر الفيل يمنة ويسرة وهما يريدان أن يخبط. فحمل القعقاع وعاصم - والفيل متشاغل بمن حوله - فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فقبع، ونفض رأسه، فطرح ساسته، ودلّى مشفره، فبادره القعقاع، فنفحه بالسيف، فرمى به، وأقعى الفيل، فقتلوا من كان عليه.
وأما حمّال والربّيل فانّهما قالا: « يا معشر المسلمين، أيّ الموت أشدّ؟ » قالوا: « أن تشدّا على هذا الفيل. » قال: « فنزّقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بازائهم. فطعن أحدهما عينه فوطئ الفيل من خلفه، ويضرب الآخر مشفره، فيضربه سائس الفيل ضربة شانئة في وجهه بالطبرزين، فأفلت بها هو والربّيل، فبقى الفيل متلدّدا بين الصفّين كلّما أتى صفّ المسلمين وخزوه، وإذا أتى صفّ المشركين نخسوه، وصاح الفيلان صياحا عظيما. ثم ولّى الأجرب الذي عوّر، فوثب في العتيق فاتّبعته الفيلة فخرقت صفّ الأعاجم، وعبرت العتيق في إثره، فبيّتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظلّ، فتزاحفوا، واجتلدوا بالسيوف حتى أمسوا. فلمّا طعنوا في الليل اشتدّ القتال وصبر الفريقان، ولم يسمع إلّا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسمّيت « ليلة الهرير » لم يكن بعدها قتال بليل بالقادسيّة.
ثم إنّ سعدا وجّه طليحة وعمرو بن معدى كرب إلى مخاضة كانت أسفل منهم، وخشي أن يؤتى المسلمون منها بعبور الفرس، ووصّاهما أن يقفا هناك، فإن أحسّا بكيد أنذرا المسلمين. فانتهيا إلى هناك، فلم يجدا أحدا. فأمّا طليحة فرأى أن يعبر، وأمّا عمرو فقال: « ما أمرنا بذلك. » فعبر طليحة حتى إذا صار وراء صفّ المشركين كبّر ثلاث تكبيرات، فدهش القوم، وكفّوا عن الحرب لينظروا ما هو، وطلبوه فلم يدروا أين سلك! وسفل حتى غاص، وأقبل إلى العسكر فأتى سعدا خبره، فاشتدّ ذلك على الفرس، وفرح المسلمون. وقال طليحة للفرس: « لا تعدموا أمرا ضعضعكم. » ثم إنّهم عادوا، وجدّدوا تعبئة، وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة والمسلمون على تعبيتهم، فطاردهم فرسان العرب، فإذا القوم لا يشدّون، ولا يريدون إلّا الزحف فقدّموا صفا له أذنان، وأتبعوا آخر وآخر حتى تمّ صفوفهم ثلاثة عشر صفّا في القلب والمجنّبتين. فرماهم فرسان العسكر فلم يعطفهم ذلك. ثم لحقت بالفرسان الكتائب، فحمل القعقاع على ناحيته التي رمى بها مزدلفا. فقاموا على ساق والناس على راياتهم، بغير إذن سعد.
فقال سعد: « اللهمّ اغفرها له وانصره، وا تميماه سائر الليلة. » ثم قال: « إنّ الرأي ما رءاه القعقاع. فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا. » فلمّا كبّروا واحدة حملت أسد، فقال: اللهمّ اغفرها لهم وانصرهم. وا أسداه سائر الليلة. » ثم حمل الناس وعصوا سعدا. فقام قيس بن المكشوح في من يليه - ولم يشهد شيئا من لياليها إلّا تلك الليلة، لأنّه كان آخر من ورد مع هاشم - فقال: « إنّ عدوّكم قد أبي إلّا المزاحفة، والرأي رأى أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجل. » قال القوم: « إذا زحفوا وطاردهم عدوّهم على الخيل لا رجال معهم عفّروا بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم. تيسّروا للحملة، وانتظروا التكبير. » - وإنّ نشّاب الأعاجم لتجوز صفّ المسلمين. » فتكلّم الرؤساء. فقال دريد بن كعب النخعي - وكان معه لواء النخع -: « إنّ المسلمين قد تهيّئوا للمزاحفة، فاستبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد، نافسوهم الشهادة، وطيبوا نفسا بالموت، فإنّه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلّا فالآخرة ما أردتم. » وتكلّم الأشعث بن قيس، فقال: « لا ينبغي أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت منّا، ولا أسخى نفسا عن الدنيا، لا تجزعوا من القتل، فإنّه أمانيّ الكرام، ومنايا الشهداء. » وترجّل وتكلّم طليحة فقال مثل ذلك، وتكلّم غالب وحمّال وأهل النجدات، فقالوا قريبا من ذلك، وفعلوا فعلهم. وقامت حربهم على ساق، حتى الصباح.
فتلك ليلة الهرير.
وحكى أنس بن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قطّ، وانقطعت الأصوات عن رستم وسعد. فبعث سعد نجّارا - وهو غلام - إلى الصفّ لم يجد رسولا، فقال: « أنظر ما ترى من حالهم. » فرجع، فقال: « ما رأيت يا بنيّ؟ » قال: « رأيت قوما يلعبون ويجدّون. » فأوّل شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الأخير، صوت القعقاع بن عمرو، وهو يقول:
نحن قتلنا معشرا وزائدا ** أربعة وخمسة وواحدا
تحسب فوق اللّبد الأساودا ** حتى إذا ماتوا دعوت شاهدا
الله ربّى واحتردت جاهدا
وأصبحوا ليلة القادسية - وهي ليلة الهرير. سمّيت بليلة القادسية من بين تلك الليالي والأيّام - والناس حسرى لم يغمّضوا ليلتهم كلّها. فسار القعقاع في الناس، فقال: « إنّ الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم، فاصبروا فإنّ النصر مع الصبر. » فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه.
ولمّا رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث المكشوح، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدى كرب، وأشباههم، فحضّوا الناس وحرّضوا.
فكان أوّل من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبندوان، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا. وانفرج القلب، وركد عليهم النقع، وهبّت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق وهي دبور، ومال الغبار عليهم. وانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير، فعبروا به، وقد قام رستم حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة. فاستظلّ في ظلّ بغل وحمله. فقصده هلال بن علّفة، وولّى عنه رستم، فاتبعه هلال، فرماه رستم، فشكّ قدمه في الركاب، وقال بالفارسية: « بباى. » - يقول: « كما أنت ارفق. » فحمل عليه هلال، فضربه ضربة نفحت مسكا. ومضى رستم نحو العتيق، فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقدم عام وهلال قائم. فأخذ رجله، ثم خرج به، وضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين يدي رحله وأرجل البغال، وأخذ سلبه، ثم صعد السرير، ونادى: « قتلت رستم وربّ الكعبة، إليّ إليّ! » فأطافوا به، وكبّروا وما يحسون السرير، ولا يرونه، وانهزم المشركون. وقام الجالنوس على الردم ونادى أهل فارس إلى العبور، وأسفر الغبار. فأما المقترنون فإنّهم جشعوا. فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون ألفا.