ذكر آراء صح أحدها على طريق المكيدة

حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع، تجمّع أهل الرأي من المسلمين، فتكلّموا، وأتوا النعمان، وقالوا: « نراهم بالخيار والقوّة ».
وهو يروّى فيما روّوا فيه. فقال: « على رسلكم، لا تبرحوا ».
وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحرب، فتوافوا إليه.
فتكلّم النعمان فقال:
« قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنّهم لا يخرجون إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وابتعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق الذي هم فيه وعليه من الخروج. فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟ »
فتكلّم عمرو بن أبي سلمى وكان أسنّ القوم، فقال: « التحصّن أشدّ عليهم من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم. »
فردّوا جميعا رأيه، وقالوا: « إنّا على يقين من إنجاز ربّنا وعده لنا. »
وتكلّم عمرو بن معدى كرب، فقال: « ناهدهم ولا تخف وكاثرهم. »
فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: « إنما نناطح الجدران. »
وتكلّم طليحة فقال: « قد قالا ولم يصيبا تفسير ما أرادا. فأمّا أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية فيحدقوا بهم، ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم، فإذا استحمشوهم واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم إلى اليوم، فإنّهم إذا أرادوا ذلك طمعوا في هزيمتنا ولم يشكّوا فيها، وخرجوا، فجادّونا، وجاددناهم حتى يقضى الله بيننا. »
فأمر النعمان بن عمرو، وكان على المجرّدة بذلك، ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، وأنغضهم. فلمّا خرجوا نكص، ثم نكص، واغتنمها العجم. ففعلوا كما ظنّ طليحة، وقالوا: « هي، هي ». فخرجوا، فلم يبق أحد إلّا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع والنعمان بن مقرّن والمسلمون على تعبئتهم.
وفي يوم جمعة وفي صدر النهار، وقد عهد النعمان عهده وقال: إن أصبت ففلان، فإن أصيب ففلان. وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم.
ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمى، وجعل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض ثم قالوا للنعمان: « ألا ترى ما نحن فيه؟ ائذن لنا في الحملة. » فقال لهم النعمان: « رويدا رويدا. » قالوا ذلك مرارا، فأجابهم بمثل ذلك.
فقال المغيرة: « لو إليّ هذا الأمر، علمت ما أصنع. » فقال: رويدا، ترى أمرك وقد كنت تلى الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إيّاك، ونحن نرجو في المكث مثل ما ترجو في الحثّ. » وانتظر النعمان أحبّ الأوقات كان إلى رسول الله .
فلمّا كان قريبا من تلك الساعة وهي الزوال، سار فوقف على الرايات، ومدحهم، وحضّهم. ثم عاد إلى موقفه، وكبّر الأولى والثانية والثالثة والناس على غاية السمع والطاعة. وحمل النعمان والناس معه، فالتقوا بالسيوف، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة قطّ كانت أشدّ منها، لا يوم القادسية لا غيرها مما تقدّم، قتلوا فيها من الفرس فيما بين الزوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة وما يزلق فيه الناس والدواب، وزلق بالنعمان فرسه وصرع، فأصيب.
وتناول الراية أخوه نعيم بن مقرّن، وسجّى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية، وكان عهد إليه بعده، فأقام اللواء. وقال المغيرة: « اكتموا مصاب أميركم حتى تنظروا ما يصنع الله فينا لكيلا يهن الناس، واقتتلوا. » فلما أظلم الليل انكشف المشركون، وتركوا قصدهم، وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان. فوقعوا فيه، وجعل لا يهوى فيه أحد إلّا قال:
« واى خرد »، فسمّى بذلك « وايه خرد » إلى اليوم. فمات فيه منهم نحو مائة ألف، وقتل في المعركة أعدادهم، ولم يفلت إلّا الشريد. ونجا الفيرزان من الصرعى في المعركة، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد، فاتّبعه نعيم بن مقرّن، وقدّم القعقاع قدّامه، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان، وكانت الثنية مشحونة من بغال وحمير موقّرة عسلا، فحبسته الدوابّ على أجله. فلما غشيه القعقاع وهو لا يجد طريقا فتوقّل في الجبل، وتوقّل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلّال حتى انتهوا إلى مدينه همذان والخيل في آثارهم، فدخلوها. وسمّيت الثنية: ثنية العسل، وقال المسلمون: « إنّ لله جنودا من عسل. » واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال.
دخول نهاوند

ودخل المسلمون بعد هزيمة الفرس نهاوند، واحتووا على ما فيها، وجمعوا الأسلاب إلى صاحب الأقباض السائب الأقرع. فبيناهم كذلك، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على إتان، فأبلغ حذيفة؟ فقال: « أتؤمننى على أن أخبرك بما أعلم؟ » قال: « نعم! » فقال: « إنّ النخيرجان وضع عندي ذخيرة كسرى، وأنا مخرجها لك على أمانى وأمان من شئت. »
سفطان ملؤهما اليواقيت واللؤلؤ

فأعطاه ذلك، وأخرج له الذخيرة سفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اليواقيت واللؤلؤ. فلمّا فرغ السائب من قسمة الأموال اجتمع رأى المسلمين على دفعهما إلى عمر.
قال السائب: فأصاب سهم الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان. فلمّا فرغت قدمت على عمر ومعي السفطان، فقال: « ما وراءك يا سائب! » فقلت: « خير، يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك - فأعظم الفتح - واستشهد النعمان بن مقرّن. » فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. ثم بكى فنشج حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده ».
قال: فلمّا رأيت ما لقي قلت: « يا أمير المؤمنين، ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. » فقال: « المستضعفون من المؤمنين، لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم، وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة ابن أمّ عمر. » ثم قام ليدخل، فقلت: « إنّ معي مالا عظيما جئت به. » ثم أخبرته الخبر عن السفطين، فقال: « أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. » قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعا إلى الكوفة، وبات تلك الليلة التي خرجت فيها. فلما أصبح بعث أثرى رسولا، فوالله ما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبى بعيري، وقال: « الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك ولم أقدر عليك إلّا الآن. » قال: قلت: « ويلك! ولما ذا؟ » قال: « لا أدري والله. » فركبت معه حتى قدمت عليه. فلما رآني قال: « ما لي ولابن أمّ السائب، بل ما لابن السائب وما لي! » قال: قلت: « وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ » قال: « ويحك! والله، إن هو إلّا نمت في تلك الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة الله تسحبنى إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني لا أبا لك، فالحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. » قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة وغشيني [ التجار ] فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعها بأربعة آلاف ألف درهم.
فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد.