ذكر رأي صحيح في وقت شدة

فاستشار الأحنف المسلمين. فاختلفوا، فبين قائل يقول: « نرجع إلى أبرشهر »، وقائل يقول: « نقيم ونستمدّ. » وقائل يقول: « نناجزهم. »
وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف مرو الرّوذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان نهر بلخ غازيا له، خرج في عسكره ليلا يتسمّع: هل يسمع برأى ينتفع به؟ فلمّا خرج مرّ برجلين ينقّيان علفا، إمّا تبنا، وإمّا شعيرا، وأحدهما يقول لصاحبه: « الرأي للأمير أن يلقى العدوّ حيث لقيهم أوّلا، فإنّه أرعب لهم. » فقال له صاحبه: « أخطأت الرأي، إن لقي العدوّ مصحرا في بلادهم لقي جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا. ولكنّ الرأي للأمير أن يسندنا إلى هذا الجبل، ليكون النهر بيننا وبين عدونا خندقا، وكان الجبل في ظهورنا، نأمن أن نؤتى من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد، [ و ] رجونا أن ينصرنا الله. » فرجع، واجتزأ بها. وذلك في ليلة مظلمة. فلما أصبح جمع الناس، ثم قال: « إنكم قليل، وعدوّكم كثير، فلا يهولنّكم: ف كَمْ من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ. ارتحلوا من مكانكم، فاستندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوه من وجه واحد. » ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم في عشرة آلاف من أهل البصرة، وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن اجتلبت من الصغد وغيرهم حتى نزلوا بهم. فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحّون عنهم بالليل ما شاء الله.
وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل. فخرج ليلة بعد ما علم علمهم طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان، فوقف. فلما كان في وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه، وضرب بطبله، ووقف من العسكر موقفا يقفه مثله.
فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين سبقه الأحنف، فقتله. قال الأحنف: فارتجزت:
إنّ على الرئيس حقّا حقّا ** أن يخضب الصعدة أو تندقّا
ثم وقف موقف التركي، وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف، فقتله. ثم وقف موقف التركيّ الثاني. قال الأحنف: فارتجزت:
إنّ الرئيس يرتبى ويطلع ** ويمنع الحلاء إمّا أربعوا
وأخذ طوق التركيّ، ثم خرج ثالث، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فقتله، قال: وارتجزت:
جرى الشموس ناجزا بناجز ** محتفل في جريه مشارز
ثم انصرف إلى عسكره ولا يعلم بذلك أحد. وكان من شيمة الترك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من كبرائهم وفرسانهم يضربون بالطبول، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث على فرسانهم مقتّلين. فتشاءموا، وتشاءم خاقان وتطيّر وقال: « قد طال مقامنا وأصيب هؤلاء القوم بمكان لم يصب بمثله أحد منّا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، انصرفوا بنا. » فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا. وأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان فتحصّن منه حارثة بن النعمان خليفة الأحنف، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان ببلخ ينتظره مقيم له.
فقال المسلمون: « نحن نتبع خاقان. » فقال: « بل أقيموا مكانكم. » ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو وأعجل عنه، وأراد أن يستقلّ منها، حاول أمرا عظيما من خزائن أهل فارس، وكان أراد اللحاق بخاقان.
فقال أهل فارس: « ما تريد أن تصنع؟ » قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. » فقالوا له: « مهلا، فإنّ هذا رأى سوء. إنّك إنّما تأتى قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم، فإنّهم أوفياء وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإنّ عدوّا يلينا في بلادنا أحبّ إلينا من عدوّ يلينا في بلاده، ولا دين لهم، فلا ندري ما وفاءهم. » فأبى عليهم، فأبوا عليه. قالوا: « فدع خزائننا نردّها إلى بلادنا ومن يليها، لا تخرجها من بلادنا إلى غيرها. » فأبى. فقالوا: « فإنّا لا ندعك. » فاعتزلوا وتركوه في حاشيته. ثم اقتتلوا، فهزموه، وأخذوا الخزائن واستولوا عليها، ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر. فاعترضهم المسلمون والمشركون بمرو، فقاتلوه، وأصابوه في آخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال ومضى حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك، فلم يزل مقيما زمان عمر كلّه يكاتبهم ويكاتبونه إلى زمان عثمان.
فأقبل أهل فارس إلى الأحنف، فصالحوه، وعاقدوه، ودفعوا الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة.
فكانوا كأنّهم في ملكهم. إلّا أنّ المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم.
وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.
ولما سمع خاقان ما لقي يزدجرد وخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر، وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ، وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ، فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس. ووفد الوفود إليه.
حوار بين خاقان ورسول يزدجرد

ولما عبر خاقان النهر، وعبر معه حاشية آل كسرى مع يزدجرد لقوا رسول يزدجرد الذي كان نفذ إلى ملك الصين، فسألوه عما وراءه.
فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون. - وأراهم هديته وجوابه عن كتاب يزدجرد إليه - قال لي:
« قد علمت أنّ حقّا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك، تذكر قلّة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف [ منكم ] معما أسمع من كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم. » فقلت: « سلني عما أحببت أخبرك. » قال: « أيوفون بالعهد؟ » قلت: « نعم. » قال: « وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ » قلت: « يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. » قال: « فكيف طاعتهم أمراءهم؟ » قلت: « أطوع قوم لمرشدهم. » قال: « فما يحرّمون وما يحلّون؟ » فأخبرته.
قال: « أفيحلّون ما حرّم عليهم، أو يحرّمون ما حلّل لهم؟ » قلت: « لا. » قال: « فإنّ هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يبدّلوا. » ثم قال: « أخبرني عن لباسهم ». فأخبرته، « وعن مطاياهم » فقلت: « الخيل العراب. » ووصفتها.
فقال: « نعمت الحصون هذه. » ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها.
فقال: « هذه صفة دوابّ طوال الأعناق. » وكتب معه إلى يزدجرد:
« إنّه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوّله بمرو، وآخره بالصين، الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم، لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلّى سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك. »
وأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة معهم عهد بخاقان. ثم جرى ما جرى من قبل عمر، رضي الله عنه.
ذكر كتاب عمر وجمل من سياسته

كان يكتب لعمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة، وأبو حبيرة بن الضحّاك الأنصاري على ديوان الكوفة. فأمّا زيد بن ثابت فإنّه كان كاتب النبي فكان يخلو به عمر. فقال له يوما: « إني استصحبتك لكتب أسرارى الذي رأيت رسول الله يفعله بك. فأخبرني عن كتبه كيف كانت إلى الملوك وغيرهم. » فقال زيد: « اعفني يا أمير المؤمنين. » فقال له: « ممّ ذاك؟ » قال زيد: « إنّ رسول الله (ص) قال لي: يا زيد! إني انتخبتك، فاحفظ أسرارى، واكتم ما استحفظتك. فضمنت له ذلك. » فأمسك عمر عن معاودته، لكن كان يملى عليه ويستعين برأيه. وكان زيد ذا رأى ونفاذ.
وكان عمر يقول لكتّابه ويكتب إلى عمّاله: « إنّ القوة على العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنّكم إذا فعلتم ذلك تداكّت الأعمال عليكم، فلا تدرون بأيّها تبدأون، وأيّها تؤخّرون. »