تدوينه الدواوين

وكان عمر أول من دوّن الدواوين من العرب. وكان سبب ذلك أنّ أبا هريرة قدم عليه من البحرين ومعه مال، فلقى عمر. فقال له عمر: « ما ذا جبيت؟ » قال: « خمسمائة ألف درهم. » فقال عمر: « أتدرى ما تقول؟ » قال: « نعم، مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف. » فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أيّها الناس، قد جاء مال عظيم، فإن شئتم كلنا كيلا، وإن شئتم أن يعدّ عددنا. » فقام رجل فقال: « يا أمير المؤمنين، هؤلاء الأعاجم يضبطون هذا بالديوان. » قال: « فدوّنوا الدواوين. » وكان عمر بعث بعثا بعد أن آمن الفيرزان وحضره فقال: « يا أمير المؤمنين، هذا البعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف منهم رجل وأخلّ بمكانه ما يدرى صاحبك به؟ » وأشار عليه بالديوان وفسّره له، فوضع عمر الديوان.
وكان أبو موسى الأشعري كتب إلى عمر رضي الله عنه:
« انّ المال كثر وكثر من يأخذه، فلسنا نحصيه إلّا بالأعاجم، فاكتب إلينا برأيك. » فكتب إليه عمر: « لا تعدهم في شيء سلبهم الله إياه، أنزلوهم حيث أنزلهم الله وتعلّموا. »
فاستكتب أبو موسى زيادا، وكتب عمر إلى أبي موسى يستقدمه. فاستخلف زياد عمران بن حصين وقدم عليه. فقال عمر: « لئن كان أبو موسى استخلف حدثا لقد استخلف الحدث كهلا. » ثم دعا بزياد وقال: « أكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به. » فكتب إليه كتابا ودفعه إلى عمر، فنظر فيه، ثم قال: « أعد »، فكتب غيره، ثم قال: « أعد »، فكتب الثالث.
فقال عمر بعد ذلك: « لقد بلغ ما أردت في الكتاب الأول، ولكني ظننت أنّه قد روّى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت، فكرهت أن أعلمه ذلك لئلّا يدخله العجب، فوضعت منه لئلّا يهلك ».
وكان عمر يملي على كاتب بين يديه وزياد حاضر. فكتب الكاتب غير ما قال عمر.
فقال له زياد: « يا أمير المؤمنين، إنه يكتب غير ما قلت له. » فقال عمر: « أنّى علمت هذا. » فقال: « رأيت رجع فيك وخطّه، فرأيت ما أجارت كفه غير ما رجعت به شفتيك. » فاستحسنه عمر.
ثم قال له يوما: « يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابته؟ » قال: « نعم، يا أمير المؤمنين. ولكن أعن عجز أم خيانة؟ » قال: « لا عن واحد منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعيّة. »
وضعه التأريخ

وكان عمر أول من كتب التاريخ من الهجرة، لأنّ أبا موسى كتب إليه أنه: « تأتينا منك كتب ليس فيها تاريخ. » - وكانت العرب تؤرّخ بعام الفيل. فجمع عمر الناس للمشهورة.
فأشار بعضهم: أن يؤرّخ بمبعث النبي .
وقال بعضهم: « بمهاجرته. ».. فأرّخ به. وكان ذلك في سنة سبع عشرة، أو ثماني عشر من الهجرة.
ثم قالوا: « بأيّ الشهور نبدأ؟ » فقال بعضهم: « بشهر رمضان. » فقال عمر: « بل بالمحرّم، فهو منصرف الناس من حجّهم، وهو شهر حرام. » فأجمعوا على المحرّم.
ودخل كاتب لعمرو بن العاص على عمر، فحاوره فأحسن الكلام، فقال عمر: « ألست ابن القين بمكة؟ » فقال: بلى.
فقال عمر: « لا يلبث القلم، أو يبلغ بصاحبه. » وكان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا، وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار واشترط عليه ألّا يركب برذونا، ولا يأكل ما لا يقدر عليه أوساط رعيّته، ولا يلبس رقيقا، ولا يتّخذ بابا دون حاجات الناس.
أنتم المؤمنون وأنا أميركم

وهو أول من خوطب ب « أمير المؤمنين » وذاك أنّ أبا بكر خوطب ب « خليفة رسول الله » فلما خلف عمر خوطب ب « خليفة خليفة رسول الله ». قال عمر: « أمر يطول. إذا جاء خليفة آخر قلتم: « خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم ».
وهو أول من جمع الناس على إمام [ يصلّي بهم التراويح ] في شهر رمضان، وكتب به إلى البلدان وأمرهم بذلك، وزاد في مصابيح المساجد.
وهو أول من حمل الدرّة وضرب بها.
فمن ذلك ما رويناه أنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أتي بمال، فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه. فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرّة، وقال: « إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض. فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لا يهابك. »
ورأت الشفاء بنت عبد الله قوما يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدا. فقالت: « ما هذا؟ » قالوا: « نسّاك. » فقالت: « كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. هو والله الناسك حقّا. »
وذكر قوم رجلا بين يدي عمر، ووصفوه وقالوا: « هو فاضل لا يعرف الشرّ. » قال: « أجدر له أن يقع فيه. »
واستعمل عمر عتبة بن أبي سفيان على كنانة، فقدم عليه بمال. فقال عمر: « ما هذا يا عتبة؟ » قال: « هذا مال خرجت به معي فتجرت فيه. » قال: « وما لك تخرج المال معك في هذا الوجه، فصيّره في بيت المال. » فلمّا ولى عثمان قال لأبي سفيان: « إن طلبت ما أخذ عمر من عتبة رددته عليك. » فقال أبو سفيان: إنّك إن خالفت صاحبك الذي تقدّمك ساء رأي الناس فيك، إياك أن تردّ على من قبلك فيردّ عليك من يجيء بعدك.
كان معجبا بسياسات ملوك العجم

وكان عمر يكثر الخلوة بقوم من الفرس يقرأون عليه سياسات الملوك وسيّما ملوك العجم الفضلاء، وسيّما أنوشروان، فإنّه كان معجبا بها، كثير الاقتداء بها. وكان أنوشروان مقتديا بسيرة أردشير آخذا نفسه بها، وبعهده الذي كتبناه فيما مضى، مطالبا به غيره. وكان أردشير متبعا لبهمن وكورس، مقتديا بهما. فهؤلاء جلّة ملوك الفرس وفضلاؤهم الذين ينبغي أن يقتدى بأفعالهم وسيرهم وتتعلّم سياساتهم ويتشبّه بهم.
وروينا عن عمران بن سوادة أنه قال: دخلت على عمر، فذكرت أشياء مما عابه بها الناس فأصغى إليّ: وضع رأس درّته في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه يستمع إلى ما أقول، إلى أن قلت: « وإنّ الرعيّة يشكون منك عنف السياق. » فشرع الدرّة، ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: « أم والله، إني لأرتع فأشبع، وأسقى فأروى، وأنهز العروض وأؤدّب (أؤرب؟ ) قدري، وأزجر اللقوف، وأسوق خطري، وأضمّ الهيوب، وألحق العطوف، وأكثر الزجر، وأقلّ الضرب، وأشهر العصا، وأدفع باليد. » فبلغ ذلك معاوية بعد، فقال: « كان والله عالما برعيّته. »