خلافة عثمان بن عفان

ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب

لما قتل عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قيل له حين طعن: « استخلف. » فأبى أن يسمّى رجلا بعينه وقال: « عليكم هؤلاء الرهط الذين توفّى رسول الله وهو عنهم راض: عليّ، وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن، وسعد خالا رسول الله والزبير بن العوام حواريّ رسول الله وابن عمّته، وطلحة الخير. فليختاروا رجلا منهم، ويشاوروا ثلاثة أيام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الثالث إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم. » وقال لأبي طلحة الأنصاري: « إنّ الله تعالى طال ما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا. » وقال لصهيب: « صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليّا، وعثمان، والزبير، وسعدا، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة - إن قدم - وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة ورضوا واحدا منهم وأبي واحد فاشدخ رأسه واضرب رأسه بالسيف، وإن اتّفق أربعة فرضوا واحدا وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضى ثلاثة منهم رجلا واحدا وثلاثة رجلا منهم فحكّموا عبد الله بن عمر، فأيّ الفريقين حكم فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس. » فخرجوا من عنده، فقال لعليّ قوم كانوا معه من قريش: « ما ترى؟ » فقال عليّ: « إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمّروا أبدا. » وتلقّاه العباس، فقال له عليّ: « عدلت عنّا ». قال: « وما علمك؟ » قال: « قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون: فيولّيها عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعانى، بله أنّى لا أرجو إلّا أحدهما. » فقال العباس: « لم أدفعك في شيء إلّا رجعت إليّ مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، ثم أشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر، فأبيت، ثم أشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم، فأبيت. احفظ عني واحدة: كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا، وأيم الله، لا نناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير. » فأجابه عليّ بما سمع بعضه ولم يسمع بعضه، وتمثّل بأبيات. والتفت، فرأى أبا طلحة، فكره مكانه. فقال أبو طلحة: « لم ترع أبالحسن ».
وكان خلع عبد الرحمن نفسه، ورضوا أن يكون هو الذي يختار للمسلمين، وقد كان جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والقوم في البيت يتشاورون، فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما.
ولما كان اليوم الرابع صعد عبد الرحمن المنبر في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ثم قال:
« أيّها الناس، إني قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد الرجلين: إما عليّ وإما عثمان. فقم إليّ يا عليّ! » فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: « هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيه وفعل أبي بكر؟ » قال: « اللهم لا، ولكن على جهدي وطاقتي. » قال: فأرسل يده، ثم نادى: « قم يا عثمان! » فأخذ بيده وهو في موقف عليّ الذي كان فيه، فقال: « هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيه وفعل أبي بكر؟ » قال: « اللهم نعم. » فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: « اللهم اسمع واشهد، اللهمّ اسمع واشهد: إني جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان. » فازدحم الناس يبايعون عثمان، وكان عبد الرحمن قعد مقعد النبي من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية.
قال: وجعل الناس يبايعونه، وتلكّأ عليّ، فقال عبد الرحمن: فَمَنْ نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. فرجع عليّ يشقّ الناس حتى بايع عثمان وهو يقول: « خدعة وأيّما خدعة ».
ذكر هذه الخدعة

كان سبب قول عليّ: « خدعة. » أن عمرو بن العاص كان لقي عليّا في ليالي الشورى فقال: « إني أحبّك وأريد نصحك: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، ومتى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك، فلا تظهر كلّ الرغبة، ولا تبذل له من نفسك إلّا الجهد والطاقة، ولا تضمن له كلّ ما يسألك وأوم إلى التواضع. » ثم أتى عثمان، فقال له: « إنّ عبد الرحمن ليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل ما يعطيك، وأعطه ما يسألك. » فلذلك قال عليّ: « خدعة. » وقد قيل: إنّ عليّا قال ذلك لأجل ما ذكرناه من اقتران عثمان وعبد الرحمن.
قال: ثم انصرف عثمان إلى بيت فاطمة بنت قيس، والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبا، فقال: « يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفّقك. ما كان لنا غير عثمان - وعليّ جالس.
فقال عبد الرحمن: « يا ابن الدبّاغ، ما أنت وذاك، والله ما كنت أبايع أحدا من هؤلاء إلّا قلت فيه هذه المقالة.
وكان أول ما كتبه عثمان إلى أمراء الأجناد في الفروج: « أما بعد، فانّكم حماة المسلمين، وذادتهم، وقد وضع عنكم عمر ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملأ منّا، فلا يبلغنّي عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم. » وكتب إلى عمّال الخراج كتابا يحضّهم فيه على العدل، وكتابا إلى العامّة يأمرهم فيه بالطاعة والاقتداء وترك الابتداع.