ذكر ما اغتر به عبد الرحمن حتى فارق رتبيل ثم اضطر إلى معاودته

كان جماعة من أصحاب عبد الرحمن وعظم فلوله ممّن لم يقبلوا أمان الحجّاج وناصبوه في مواطنه لم يكن لهم عنده وجه، فاضطرّوا إلى الخروج في إثر عبد الرحمن، فلم يزالوا يتساقطون إلى نواحي سجستان حتى اجتمع منهم وممّن اتّبعهم من أهل البلد نحو من ستين ألفا. فنزلوا على عبد الله بن عامر، فحصروه وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بعددهم وجماعتهم وهو عند رتبيل، وكان يصلّى بهم عبد الرحمن بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، وكتبوا إليه أن:
« أقبل، لعلّنا نسير إلى خراسان، فإنّ بها منّا جندا عظيما، فلعلّهم يبايعوننا على قتال أهل الشام وهي بلاد واسعة عريضة فيها حصون. »
فخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن، فضرب وعذّب وحبس. ثم إنّه توجّه إليهم خيل الشام، عليهم عمارة بن تميم اللخميّ.
ذكر آراء أشير بها على ابن الأشعث ورأى رءاه وحده سديد لو ساعدوه عليه

أشار أصحاب عبد الرحمن عليه أن يخرج عن سجستان، وقالوا له:
« هلمّ بنا، نأتى خراسان وندع لهم سجستان. » فقال عبد الرحمن:
« على خراسان يزيد بن المهلّب وهو شابّ شجاع صارم وليس بتارك سلطانه، ولو قد دخلتموها وجدتموه سريعا إليكم، ولن يدع أهل الشام اتّباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألّا تنالوا ما تظنّون. » فقالوا:
« إنّما أهل خراسان منّا، ونحن نرجو أن لو دخلناها أن يكون من يتّبعنا منهم أكثر ممّن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة نتنحّى فيها حيث شئنا ونمكث حتى يهلك الله الحجّاج أو عبد الملك، أو نرى رأينا. » فقال لهم عبد الرحمن:
« سيروا على اسم الله. » فساروا حتى بلغوا هراة. فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب القرشيّ في ألفين، ففارقه وأخذ طريقا سوى طريقهم.
فلمّا أصبح ابن الأشعث خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أمّا بعد، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس منها مشهد لا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى فيه منكم أحد، وقد كنت لمّا رأيتكم لا تصبرون ولا تصدقون القتال، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه. فجاءتني كتبكم بأن: أقبل إلينا فإنّا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلّنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم، فرأيتم أن أمضى إلى خراسان وزعمتم أنّكم مجتمعون لي، وأنّكم لن تتفرّقوا عني، فحسبي منكم يومي هذا. قد صنع عبيد الله ما قد رأيتم، فاصنعوا أنتم أيضا ما بدا لكم. أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله. فمن أحبّ منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحبّ في كنف الله. » فتفرّقت منهم طائفة ونزلت معه طائفة وبقي عظم العسكر. فوثبوا إلى عبد الرحمن بن عباس الهاشميّ لما انصرف ابن الأشعث، فبايعوه ثم مضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقيهم الرقاد بن عبيد العتكيّ، فقتلوه وخرج إليهم يزيد بن المهلّب، وأرسل إليهم وإلى الهاشميّ:
« قد كان لك في البلاد متّسع ومن هو أكلّ مني حدّا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس [ لى ] فيه سلطان، فإني أكره قتالك. وإن أحببت أن أمدّك بمال لسفرك أعنتك عليه. » فأرسل إليه:
« ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا انتقام، ولكنّا أردنا أن نريح ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت. » فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشميّ على الجباية وبلغ يزيد، فقال:
« من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج. » فقدّم المفضّل في خمسة آلاف ثم أتبعه في أربعة آلاف.
ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال:
« ما أرانى إلّا قد ثقلت عن الحرب. أيّ فرس يحملني! » ثم دعا بفرسه الكامل، فركبه حتى أتى هراة، وأرسل إلى الهاشميّ:
« قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك.
فاخرج، فو الله ما أريد أن أقاتلك. » فأبى إلّا القتال، ودسّ الهاشميّ إلى جند يزيد يمنّيهم ويعدهم إلى نفسه. فأخبر بعضهم يزيد، فقال:
« جلّ الأمر عن العتاب. أتغدّى بهذا قبل أن يتعشّى بي. » فسار إليه حتى تدانى العسكران وتأهّبوا للقتال، وألقى ليزيد كرسيّ، فقعد عليه، وولّى الحرب أخاه المفضّل، وقال له:
« قدّم خيلك. » فتقدّم بها وتهايجوا، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرّق الناس عن عبد الرحمن الهاشميّ، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، فكثرهم الناس، فانكشفوا. فأمر يزيد بالكفّ عن اتّباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى فيهم سعيد بن أبي وقّاص، وموسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، ويزيد بن الحصين، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبيد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وابن سمرة قصد مرو.
ثم انصرف يزيد إلى مرو، وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع ابن عمّ له، وخلّى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة.
وسعى قوم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد، وحبسه. فأمّا محمد بن سعد بن أبي وقّاص، فيقال: إنّه قال ليزيد:
« أسألك بدعوة أبي لأبيك. » ولقوله هذا حديث فيه طول.
ذكر ما تقدم به الأسرى عند الحجاج

لمّا قدم الأسرى على الحجّاج، قدّم موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر، فقال:
« أنت صاحب عديّ الرحمن. » فقال:
« أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك، وإن عاقبت، عاقبت ظلمة مذنبين. » فقال الحجّاج:
« أمّا قولك: شملت البرّ والفاجر فكذبت، ولكنّها شملت الفجّار وعوفي منها الأبرار، وأمّا اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك. » فعزل، ورجا له الناس العافية. حتى قدّم الهلقام بن نعيم، فقال له الحجّاج:
« أخبرني عنك، ما رجوت اتّباع عبد الرحمن بن محمد، أرجوت أن يكون خليفة؟ » قال:
« نعم، رجوت ذلك وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك. » فغضب الحجّاج، وقال:
« اضربوا عنقه! » ونظر إلى موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر وقد كان نحّى عنه، فقال:
« اضربوا عنقه! » وقتل، وقتل بقيّتهم.
كلام للشعبي لما حمل إلى الحجاج

كان الحجّاج لمّا هزم الناس نادى مناديه:
« من لحق بقتيبة بن مسلم بالريّ فهو أمانه. » فلحق ناس كثير بقتيبة وفيهم عامر الشعبيّ. فذكره الحجّاج يوما وقال:
« أين هو، وما فعل؟ » قال له يزيد بن أبي مسلم، وهو كاتب الحجّاج:
« بلغني أيها الأمير أنّه لحق بقتيبة. » فكتب الحجّاج إلى قتيبة أن يبعث إليه بالشعبى حين ينظر في كتابه. فسرّحه إليه.
قال الشعبي: كنت لابن أبي مسلم صديقا. فلمّا قدم بي على الحجّاج لقيته وقلت له:
« أشر عليّ. » قال:
« ما أدري ما أشير به عليك، غير أن: اعتذر ما استطعت من عذر. » فلمّا دخلت سلّمت بالإمرة ثم قلت:
« أيها الأمير إنّ الناس قد أمرونى أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق.
وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلّا حقا. قد والله سوّدنا عليك، وخرجنا واجتهدنا عليك كلّ الجهد فما ألونا. فما كنّا بالفجرة الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء. ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجّة لك علينا. » فقال له الحجّاج:
« أنت والله أحبّ إليّ ممّن يدخل عليّ يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت. قد أمنت عندنا يا شعبيّ. » قال: فانصرفت. فلما مشيت قليلا، قال:
« هلّم يا شعبيّ! » قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: « قد أمنت ». فاطمأنّت نفسي. قال:
« كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبيّ؟ » وكان لي مكرما. فقلت:
« أصلح الله الأمير، اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. » قال: