« ارجعوا! » فانصرفوا. فلمّا ركبوا خيولهم اختلجوا رماحهم ثم رفعوا خيولهم كأنّهم يتطاردون بها. فقال الملك لأصحابه:
« كيف ترونهم؟ » قالوا:
« ما رأينا مثل هؤلاء قطّ. » فلمّا أمسى أرسل إليهم أن ابعثوا إليّ زعيمكم وأفضلكم رجلا.
فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه:
« قد رأيتم عظيم ملكي وأنّه ليس أحد يمنعكم مني وأنتم في بلادي بمنزلة الخاتم في كفّى، وأنا سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم. » قال:
« سل. » قال:
« لم صنعتم ما صنعتم من الزيّ في اليوم الأوّل والثاني والثالث؟ » قال:
« أمّا زيّنا في اليوم الأوّل فلباسنا في أهالينا، وأمّا يومنا الثاني، فإذا أتينا أمراءنا، وأمّا يومنا الثالث فزيّنا لعدوّنا، فإذا هاج هيج كنّا هكذا. » قال:
« ما أحسن ما دبّرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلّة أصحابه وإلّا بعثت إليه من يهلكه ويهلككم معه. »
ذكر كلام لهبيرة في جواب الملك صار سببا لحمله الخراج وتهيبه الحرب

فأجابه هبيرة وقال:
« كيف يكون قليل الأصحاب من أوّل خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك؟ وأمّا تخويفك إيّانا بالقتل فإنّ لنا آجالا إذا حضرت فلسنا نكرهها ولا نخافها. » فقال بعد أن أطرق:
« فما الذي يرضى صاحبك؟ » قال:
« إنّه قد حلف ألّا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية. » قال:
« فإنّا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. » قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم. ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعثوا به. » فقبل الجزية وختم الغلمة وردّهم ووطئ التراب. فقال في ذلك سوادة بن عبد الله السلولي:
لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ** للصين لو سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على العدى خوف الرّدى ** حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم في أعناقهم ** ورهائن دفعت لحمل سمرّج
أدّى رسالتك التي استرعيته ** وأتاك من حنث اليمين بمخرج
قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس.
من سيرة قتيبة

وكان من سيرة قتيبة إذا بعث طلائع الفرسان أو غيرهم أن يأمر بلوح منقوش فيشقّ شقّتين، فيعطيهم شقّة ويحتبس شقّة ويأمرهم أن يدفنوها في موضع يصفه من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، ثم يبعث بعده من يستخرجها ليعلم أصادق طليعته أم لا.
خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان

وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك وخالف قتيبة بخراسان وتأدّى أمره إلى أن قتل.
ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك ما حكيناه من إجابة قتيبة الوليد إلى خلع سليمان.
فلمّا مات الوليد وبويع سليمان خافه قتيبة، وأشفق أن يولّى سليمان يزيد بن المهلّب خراسان لمودّة كانت بين يزيد بن المهلّب وبين سليمان.
فكتب قتيبة كتابا إلى سليمان يهنّئه بالخلافة ويعزّيه عن الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنّه على مثل ذلك له من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، ثم كتب كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وبعد صوته فيهم، ويذمّ المهلّب وآل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه.
ثم كتب كتابا ثالثا فيه خلعه.
وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال:
« ادفع هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلّب حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب الثالث. وإن قرأ الأوّل ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين. » فقدم رسول قتيبة ودخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع الكتاب الأوّل، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، ثم دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، ثم أعطاه الكتاب الثالث فتمعّر لونه ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه [ بيده ]. ثم أمر رسول قتيبة أن ينزل. فحوّل إلى دار الضيافة. فلمّا أمسى دعا به سليمان، فأعطاه صرّة فيها دنانير، فقال:
« هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان، فسر، وهذا رسولي معك بعهده. » فخرج الباهليّ و [ معه ] رسول سليمان. فلمّا كانا بحلوان تلقّاهما الناس بخلع قتيبة واضطراب الأمر. فدفع الرسول العهد إلى رسول قتيبة وانصرف هو.
ذكر عجلة قتيبة بالخلع وما دبره من أمره

فأمّا قتيبة فإنّه لمّا همّ بالخلع استشار إخوته، فقال عبد الرحمن:
« اقطع بعثا، فوجّه فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فإنّه لا يقيم معك إلّا ناصح. »
وقال أخوه عبد الله:
« اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان. » فأخذ برأى عبد الله فخلع سليمان ودعا الناس إلى خلعه، وخطب:
« أيها الناس، إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر، فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدّرة ولا مؤخّرة، وقد جرّبتم الولاة [ قبلي، ] أتاكم أميّة، فكتب إلى أمير المؤمنين أنّ خراج خراسان لا يقيم مطبخى، ثم جاءكم أبو سعيد، فدوّم ثلاث سنين ولا تدرون: أفي طاعة أنتم أم في معصية، لم يجب فيئا، ولا نكا عدوّا. ثم جاءكم بنوه بعده. فحل تنازى إليه النساء، وإنّما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنّقة القيسي، فلم يجبه أحد.. » فغضب وقال:
«.. لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على غير ما كسرتم قرنه يا أهل السافلة - ولا أقول العالية - يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كلّ أوب، يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفح والكذب والبخل! بأيّ يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم يوم سلمكم؟ يا أصحاب مسيلمة، يا بنى ذميم - ولا أقول: تميم - يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمّون الغدر في الجاهليّة كيسا، يا معشر عبد القيس القساة، تبدّلتم من أبر النخل أعنّة الخيل، يا معشر الأزد تبدّلتم من [ قلوس ] السفن أعنّة الحصن. الأعراب، وما الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم ومنابت الفلفل، تركبون البقر والحمر في جزيرة بنى كاوان، حتى إذا جمعتكم كما يجمع قزع الخريف، قلتم كيت وكيت. أما والله، لأعصبنّكم عصب السلمة. يا أهل خراسان! هل تدرون من واليكم؟ يزيد بن ثروان. كأنّى بأمير قد جاءكم، من جاء وحكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم. إنّ هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. الشام أب مبرور، والعراق أب مكفور، حتى متى ينتطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم. يا أهل خراسان! انسبوني تجدوني عراقيّ الأب، عراقيّ الأمّ، عراقيّ المولد، عراقيّ الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم في ما ترون من الأمن والعافية وقد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه المزيد. » ثم نزل.
فأتاه أهل بيته، فقالوا:
« ما رأينا كاليوم قطّ، والله، ما اقتصرت على العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرا وهم أعضادك وأنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميما وهم إخوتك، ثم لم ترض حتى تناولت الأزد وهم يدك. » فقال:
« ويحكم! إني لمّا تكلّمت فلم يجيبوا غضبت، فلم أدر ما قلت. أما أهل العالية فكإبل الصدقة وقد جمعت من كلّ أوب، وأمّا بكر فإنّها أمة لا تمنع يد لامس، وأمّا تميم فجمل أجرب، وأمّا عبد القيس فما تضرب العير بذنبه، وأمّا الأزد فأعلاج أشرار لو وسمتهم لما أثمت. » فغضب الناس من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه، وكرهوا أيضا خلع سليمان. فكان أوّل من تكلّم في ذلك الأزد. فأتوا حصين بن المنذر، فأبى أن يقبل رئاستهم فأرادوا أن يولّوا عبد الله بن ذودان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حصين وقالوا:
« قد تدافعنا الرئاسة، فنحن نولّيك أمرنا وربيعة تخالفك. » قال: