ذكر اتفاق سيء اتفق على يزيد بن المهلب

خرج الحواريّ بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربين من يزيد بن المهلّب فلقى في طريقه خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلّب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد المهلّب وكلّ شيء أراده. فاستقبلهما فسألاه عن الخبر. فلمّا رأى حميد بن عبد الملك معهما خلا بهما وقال:
« أين تريدان؟ » قالا:
« نريد يزيد بن المهلّب، قد جئناه بكلّ شيء يريد ويقترح. » فقال:
« هيهات، قد تجاوز الأمر ذلك وما تقدران أن تصنعا بيزيد أو يصنع هو بكما.
قد ظهر على عدوّه عديّ بن أرطاة وقد قتل سراة الناس ووجوه الفرسان، وحبس عديّا، فارجعا ولا تهديا نفوسكما إلى يزيد. » فعادى مع الحواريّ بن زياد وأقبلا بحميد معهما إلى يزيد بن عبد الملك.
فقال لهما حميد:
« أنشدكم الله أن تخالفا في أمر يزيد وما بعثتما به، فإنّ يزيد قابل منكما وإنّ هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء. فناشدتكما الله أن تسمعا مقالة هذا فينا. » فلم يقبلا قوله وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن مسلم الكلبي، وكان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها. فلمّا بلغه خلع يزيد بن المهلّب، كتب إلى يزيد بن عبد الملك:
« إنّ جهاد من خالفك أحبّ إليّ من ولايتي خراسان، فلا حاجة لي فيها، واجعلنى ممّن توجّه إلى يزيد بن المهلّب. » وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب على خالد بن يزيد بن المهلّب وهو بالكوفة، وعلى حمّال بن زحر وليسا ممّن ينطف بشيء، إلّا أنّه أوثقهما لما عرف بين حمّال وبين بنى المهلّب، وسرّح بهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا ولم يفارقا السجن حتى هلكا فيه.
وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكّنونهم ويثنون عليهم بطاعتهم ويمنّونهم الزيادات.
ثم إنّ يزيد بن عبد الملك بعث العبّاس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف فارس جريدة خيل حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلّب. أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك في جنود أهل الشام، فأخذ على الجزيرة على شاطئ الفرات، واستوسق أهل البصرة ليزيد بن المهلّب، وبعث عمّاله إلى الأهواز وفارس. وبعث عبد الرحمن إلى بنى تميم:
« إنّ هذا مدرك بن المهلّب يريد أن يلقى بينكم الحرب وأنتم في بلاد عافية في طاعة وعلى جماعة. » فخرجوا ليلا يستقبلونه ويكيدونه. وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو ألفى فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة. فقالوا لهم:
« ما جاء بكم وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ » فاعتلّوا عليهم بأشياء ولم يقرّوا أنّهم خرجوا ليكيدوا مدرك بن المهلّب.
فقال لهم الأزد:
« بل قد علمنا أنّكم لم تخرجوا إلّا لتلقّى صاحبنا وها هو ذا منكم قريب، فما شئتم. » ثم أسرعت الأزد حتى لقوا مدركا على رأس المفازة، فنصحوا له وأعلموه أنّه يقع في بلاء لا يدرون ما عاقبته ويشيرون عليه بالانصراف إلى أن يتمّ أمر يزيد. » فقبل ورجع من مكانه.
ثم إنّ يزيد بن المهلّب لمّا استجمع له أهل البصرة، صعد المنبر وخطبهم وأخبرهم أنّه يدعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه ويحثّ على الجهاد ويزعم أنّ جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم.
فكان الحسن البصري حاضرا. فرفع صوته وقال:
« والله لقد رأيناك واليا ومولّيا عليك، فما ينبغي لك. » فوثب عليه من كان بجنبه، فأخذوا بيده وفمه وأجلسوه، وما شكّ الناس أنّه سمعه ولكنّه لم يلتفت إليه ومضى في خطبته.
ثم إنّ الحسن خرج يخذّل الناس عنه ويقول:
« كان بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون يسرّح بها إلى بنى مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم. » فلمّا غضب نصب قصبا ووضع عليه خرقا وقال:
« قد خالفت هؤلاء، فخالفوهم. » وقال:
« إني أدعوكم إلى سنّة العمرين، ألا إنّ سنّة العمرين أن يوضع قيد في رجليه، ثم يردّ إلى محبس عمر الذي حبسه فيه. » فقال ناس من أصحابه ممّن سمعوا قوله:
« والله، لكأنّك يا با سعيد راض عن أهل الشام. » فقال:
« أنا راض عن أهل الشام؟ قبّحهم الله ونزحهم! أليسوا الذين أحلّوا حرم رسول الله يقتلون أهله ثلاثة أيّام وثلاث ليال وقد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر وذوات الدين لا يتناهون عن انتهاك حرمة، ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار. » ثم إنّ يزيد خرج من البصرة، واستخلف عليها مروان بن المهلّب، وقدّم بين يديه عبد الملك بن المهلّب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، وأقبل حتى نزل واسطا. وكان قبل أن يبلغها استشار أصحابه وقال لهم:
« إنّ أهل الشام قد نهضوا إليكم. »
ذكر آراء أشير بها على يزيد بن المهلب فما عمل بها

فقال له حبيب وغيره:
« نرى أن تخرج حتى تنزل فارس وتأخذ بالشعاب والعقاب وتدنو من خراسان وتطاول القوم، فإنّ أهل الجبال ينقضّون إليك وفي يدك القلاع والحصون. » فقال:
« ليس هذا برأى وليس يوافقني. إنّما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل. » فقال له حبيب:
« فإنّ الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أوّل الأمر قد فات. كنت أمرتك حين ظهرت على البصرة أن توجّه خيلا عليها بعض أهل بيتك حتى يرد الكوفة، فإنّما هو عبد الحميد، مررت به في سبعين رجلا. فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز في العدّة، وتسبق إليها أهل الشام وعظم أهلها يرى رأيك ويحبّ أن لا يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني. وأنا اليوم أشير عليك برأى: سرّح مع بعض أهل بيتك خيلا عظيمة، فتأتى الجزيرة وتبادر إليها حتى تنزل حصنا من حصونها، وتسير في إثرهم. فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جندك بالجزيرة ويقبلوا إليك. فيقيمون عليهم، فكانوا حابسيهم عنك حتى تأتيهم ويأتيك [ من ] بالموصل من قومك وتبذل المال، ويأتيك أهل الجزيرة، وينقضّ إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم في أرض رفيغة السعر، وقد جعلت العراق كلّه وراء ظهرك. » فقال:
« إني أقطع جندي. » فلمّا نزل واسطا أقام بها أيّاما يسيرة.
ودخلت سنة اثنتين ومائة

قد حكينا ما كان من توجيه يزيد بن عبد الملك، العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلّب لمحاربته. واستعدّ يزيد للقائهما واستخلف على واسط ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدّم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مرّ بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قرية يقال لها: فارط. ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلّب وقد قدّم يزيد عبد الملك نحو الكوفة فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفّوا. ثم اقتتل القوم فشدّ عليهم أهل البصرة شدّة كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناس من بنى تميم وقيس ممّن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العبّاس بن الوليد فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعيّ. فلمّا انكشف أهل الشام تلك الانكشافة نادى هريم بن أبي طحمة:
« يا أهل الشام، الله الله! إلى أين؟ أتسلموننا وقد اضطرّهم أصحاب عبد الملك إلى نهر؟ » فأخذوا ينادونه:
« لا بأس عليك، إنّ لأهل الشام جولة في أوّل القتال أتاك الغوث. » ثم إنّ أهل الشام كرّوا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا. وجاءهم عبد الملك حتى انتهى إلى أخيه بالعقر وسقط إلى يزيد ناس كثير من أهل الكوفة ومن أهل الجبال. فبعث على الأرباع رؤساءهم عبد الله بن المفضّل الأزديّ، والنعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمّد بن إسحاق بن محمّد بن الأشعث،
وحنظلة بن عتّاب بن ورقاء التميميّ. وجمعهم جميعا مع المفضّل بن المهلّب.
فتحدّث علاء بن زهير قال: والله إنّا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: