« أيها الأمير، إنّ الّذى أنت فيه من حمل الشّاء، ليس له خطر، وقد فرّقت النّاس، وشغلتهم وأظلّك عدوّك، فدع هذه الشّاء لعنة الله عليها ومر النّاس بالاستعداد. » فقال أسد:
« والله، لا يعبر رجل ليس معه شاة حتى تفنى هذه الغنم، الفارس يحملها بين يديه، والرّاجل على عنقه. » وخاض النّاس.
فلمّا حفرت سنابك الخيل النّهر، صار بعض المواضع مخائض يقع فيها الرجل. فأمر أسد بالشّاء أن تقذف ويخوضوا. فما استتمّ النّاس العبور حتى طلعت عليهم التّرك بالدّهم، فقتلوا من لم يقطع النّهر، وجعل النّاس يقتحمون، وركب أسد إلى النّهر، وأمر بالإبل أن يقطع بها النّهر حتى يحمل عليها الأثقال. وأقبل رهج من ناحية الختّل، فإذا خاقان. فلمّا توافى معه صدر من جنده حمل على الأزد وبنى تميم، وكانوا على مسلحة خلّفهم أسد على الضّعفة من النّاس.
فلمّا حمل عليهم خاقان انكشفوا، وركض أسد حتى انصرف إلى عسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الّذين كان قد سرّحهم أمامه أن:
« انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي. » وأقبل خاقان، فظنّ المسلمون أنّه لا يقطع النّهر إليهم. فلمّا نظر خاقان إلى النّهر أمر الإسكند، وهو يومئذ اصبهبذ، أن يسير في الصّفّ. وسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب:
« هل يطاق قطع النّهر والحملة على أسد؟ » وكلّهم يقول:
« لا يطاق. » حتى انتهى إلى استجن فقال:
« بلى يطاق، لأنّنا خمسون ألف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة ردّ بعضنا عن بعض الماء، فذهبت جريته. » قال: فضربوا بكوساتهم. فظنّ أسد ومن معه أنّه منهم وعيد، فأقحموا دوابّهم، فجعلت تنخر أشدّ النّخير. فلمّا رأى المسلمون إقحام التّرك ولّوا إلى العسكر، وعبرت التّرك، فسطع رهج شديد لا يبصر الرّجل دابّته ولا يعرف بعضهم بعضا، ودخل المسلمون عسكرهم وحوى التّرك ما كان خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه التّرك، فأدبروا. وبات أسد وعبّأ من الليل تخوّفا من غدوّ خاخان. فلمّا أصبح لم ير شيئا، ودعا وجوه النّاس واستشارهم.
فقالوا له:
« اقبل العافية. » قال:
« ما هذه عافية، بل هذه بليّة، لقينا خاقان أمس، فظفر وأصاب من الجند والسّرح، فما منعه اليوم منّا إلّا أنّه قد وقع في يده أسرى فأخبروه بموضع الأثقال. » فكان هذا رأيا جيّدا وحديثا صوابا من أسد، وقد علم العدوّ أنّ الثقل أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها.
ثم ارتحل أسد وبعث أمامه الطّلائع. فرجع بعضهم فأخبره أنّه عاين طوقات الأتراك وأعلاما من أعلام اسكند، فسار [ والدوابّ ] مثقلة. فقيل له:
« انزل أيّها الأمير واقبل العافية. » فقال:
« واين العافية فأقبلها، إنّما هي بليّة ذهاب الأموال والأنفس. » فلمّا صار الى منزل وأمسى، استشار النّاس:
« أتنزلون أم تسيرون؟ » فقال النّاس:
« اقبل العافية، وما عسى أن يكون من ذهاب الأثقال بعافيتنا وعافية أهل خراسان » ونصر بن سيّار مطرق.
فقال أسد:
« مالك يا بن سيّار لا تتكلّم؟ »
فقال: « أصلح الله الأمير، خلّتان كلتاهما لك: إن تسر تغث الأثقال وتخلّصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا، فقد قطعت قحمة لا بدّ من قطعها. » فقبل رأيه وسار يومه كلّه.
قال: ودعا أسد قبل أن يسير سعيدا الصّغير، وكان عالما بطريق الختّل فارسا، وكتب معه كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد ويعلمه أنّ خاقان طواه وتوجّه إلى ما قبلك. ثم قال له:
« سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك، وأنت لحقت بالحارث هربا مني، فعليّ مثل الّذى حلفت. إني أبيع أمرأتك دلال في سوق بلخ، وجميع أهل بيتك. » قال سعيد:
« فادفع إليّ فرسك الكميت الذّنوب. » قال:
« لعمري، لئن جدت بدمك وبخلت عليك بالفرس، إني للئيم. » فدفعه إليه وسار على دابّة من جنائبه وغلامه على فرس معه فرس أسد يجنبه. فلمّا حاذى غبرة طلائع التّرك تحوّل إلى فرس أسد، فطلبته الطّلائع، فركض ولم يلحقوه. وأتى إبراهيم بالكتاب وتبعه بعض الطّلائع حتى وافوا عسكر إبراهيم والأثقال. فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان اليوم الثاني على الأثقال وقد خندق إبراهيم خندقا والنّاس قيام عليه. فأمر خاقان أهل السّغد بقتالهم. فلمّا دنوا من مسلحة المسلمين، ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا.
فقال خاقان:
« اركبوا. » وصعد تلّا مشرفا، وجعل ينظر العورة، ووجّه المقاتلة وكذا كان يفعل ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة.
ذكر ظفر خاقان ثم انهزامه باتّفاق حسن مع تدبير جيّد وجدّ في المسير من أسد حتى رجع كيد العدوّ عليه وسلم المسلمون وأثقالهم

ولمّا صعد خاقان التّلّ رأى خلف العسكر جزيرة ودونها مخاضة. فدعا بعض قوّاد التّرك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه، ثم ينحدروا، في الجزيرة، حتى يأتوا عسكر المسلمين من ورائهم، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصّغانيان وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم. وقال لهم:
« إن أقام القوم في خندقهم وأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم، وإن ثبتوا لنا، فادخلوا من دبره عليهم. » ففعلوا، ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صاغان خذاه، ودخلوا عسكر إبراهيم، فأخذوا عامّة ما فيه، وترك المسلمون التّعبئة، واجتمعوا في موضع وأحسّوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء، وإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت التّرك ترتفع عنهم إلى الموضع الّذى فيه خاقان وإبراهيم يتعجّب من كفّهم، وقد ظفروا، وقتلوا من قتلوا، بعد إصابتهم الغنيمة، وهو لا يطمع في أسد.
وكان أسد قد أغذّ السّير، فأقبل أسد حتى وقف على التّلّ الّذى عليه خاقان، وتنحّى خاقان إلى ناحية الختّل، وخرج إلى أسد من كان بقي من أصحاب إبراهيم وقد قتل منهم بشر كثير ومشيخة من خزاعة. وخرجت امرأة صاغان خذاه إلى أسد فبكت زوجها، وبكى أسد معها حتى علا صوته.
وانصرف خاقان على طريق طخارستان وهناك الحارث بن سريج، فانضمّ الحارث إلى خاقان، وسار معه في أصحابه، ومضى أسد إلى بلخ، فعسكر في مرجها حتى الشّتاء، وكان الحارث يقول لخاقان:
« إنّه لا نهوض بأسد، وقد تفرّق عنه العسكر. » فبثّ خاقان جنده في الغارات على النّواحى وأقبل حتى نزل جزّة، فأمر بالنّيران، فرفعت على أعلى المدينة. فجاء النّاس من الرّساتيق إلى مدينة بلخ.
فأصبح أسد وصلّى، وخطب النّاس وقال:
« إن عدوّ الله الحارث بن سريج استجلب طاغية التّرك ليطفئ نور الله ويبدّل دينه، وإنّ عدوّكم قد أصاب من إخوانكم ما أصاب، فإن يرد الله نصركم لم يضرركم قلّتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله. » ثم وضع جبهته لله عز وجل، ودعا، فأمّنوا عليه، ثم رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكّون في الفتح. ثم نزل عن المنبر وضحّى، وكان يوم الأضحى، وشاور النّاس في المسير إلى خاقان.
فقال قوم:
« أنت شاب لا تتخوّف من غارة على دابّة ولا شاة إلّا ما لا خطر فيه لخروجك. » فقال:
« والله لأخرجنّ، فإمّا ظفر وإمّا شهادة. » ثم أخذ من جبلة بن أبي داود مائة وعشرين ألف درهم، وأمر النّاس بعشرين عشرين، ومعه من جنود خراسان وأهل الشّام سبعة آلاف رجل.
فاستخلف على بلخ الكرمانيّ، وأمره أن لا يدع أحدا يخرج من مدينتها وإن ضرب التّرك باب المدينة.
فقال نصر بن سيّار الليثي والقاسم بن بخيت وجماعة أمثالهم وسعيد الصّغير:
« أصلح الله الأمير، ائذن لنا في الخروج ولا تهجّن طاعتنا. » فأذن لهم وخرج فنزل بابا من أبواب بلخ، وصلّى بالنّاس ركعتين طوّلهما، ونادى في النّاس:
« ادعوا الله. » وأطال الدّعاء بالنّصر وأمّن النّاس على دعائه.
ثم انتقل من دعائه فقال: