« أنتم استبحتم عسكر خاقان؟ » قال:
« بلى » قال:
« حاجتك. » قال:
« إنّ يزيد بن المهلّب أخذ من أبي حيّان من غير حقّ مائة ألف. » فقال هشام:
« لا أكلّفك شاهدا، أحلف بالله، إنّه لكما قلت. » فحلف، فردّها عليه من بيت مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها. فكتب إليه، فأعطاه مائة ألف، فقسمها بين ورثة حيّان على فرائض الله.
خروج المغيرة بن سعيد على خالد بن عبد الله

وفي هذه السّنة خرج على خالد بن عبد الله المغيرة بن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم وقتلهم.
ذكر السبب في ذلك

أمّا المغيرة بن سعيد، فكان يتشيّع، ثم نسبت إليه أمور شنيعة فيها تزيّد وإسراف.
فأحدها ما حكاه صاحب التّاريخ على ما أخبرنا به القاضي عن محمّد بن جرير الطّبري، قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا جرير عن الأعمش، قال سمعت المغيرة بن سعيد يقول:
« لو أراد عليّ أن يحيى عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا، لأحياهم. » قال الأعمش:
« كان المغيرة يخرج إلى المقبرة، فيتكلّم فيرى مثل الجراء على القبور. » ونحو هذا من الكلام.
وحكيت عنه حكايات عظيمة.
فلمّا أخذ خالد المغيرة وأصحابه أتى بهم، وهم سبعة، وأمر بسريره، فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط، فأحضر، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنّا، فكعّ وتأنّى، فصبّت السّياط على رأسه، فتناول طنّا فاحتضنه، فشدّ عليه، ثم صبّ عليه وعلى الطّنّ نفط، ثم ألهبت النّار، فاحترقا، ثم فعل بالرّهط مثل ذلك. ثم أمر بيانا آخرهم، فتقدّم إلى الطّنّ مبادرا، فاحتضنه، فقال خالد:
« ويلكم، في كلّ أمركم تحمقون، هلّا رأستم هذا إلّا المغيرة. » ثم أحرقه.
وكان هؤلاء يسمّون الوصفاء، وكان ظهورهم وخروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال:
« أطعمونى ماء. » وقيل فيه:
أ خالد لا جزاك الله خيرا ** وأير في حر أمّك من أمير
وقلت من المخافة أطعمونى ** شرابا، ثم بلت على السّرير
ولمّا قتل خالد المغيرة، أرسل إلى مالك بن أعين الجهني، فسأله، فصدّقه عن نفسه، فأطلقه. فلمّا خلا مالك بمن يثق به وكان فيهم أبو مسلم صاحب الدّعوة قال لهم:
ضربت لهم بين الطريقين لاحبا ** وطنت عليه الشّمس في من يطينها
وألقيته في شبهة حين سألني ** كما اشتبها في الخطّ سين وشينها
وكان يقول أبو مسلم حين ظهر أمره:
« لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
وفي هذه السّنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل
ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله

كان بهلول يتألّه، وكان بدابق، وهو مشهور بالبأس والنّجدة عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحجّ. فلمّا كان بسواد الكوفة أمر غلامه أن يبتاع له خلّا بدرهم. فجاء غلامه إليه بخمر، فردّه وقال:
« استرجع الدّرهم. » فلمّا رجع الغلام لم يجبه البائع إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية، فكلّمه، فقال العامل:
« الخمر خير منك ومن قومك. » فمضى البهلول في حجّه حتى فرغ منه. ثم عزم على الخروج على السّلطان، فلقى بمكة من كان على مثل رأيه، فاتّعدوا قرية من قرى الموصل، واجتمع إليه أربعون رجلا، وأمّروا عليهم بهلول، وأجمعوا على أن لا يمرّوا بأحد إلّا أخبروا أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، وجّههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم. فجعلوا لا يمرّون بعامل إلّا أخبروه بذلك وأخذوا منه دوابّ من دوّاب البريد. فلمّا انتهوا إلى القرية الّتى كان ابتاع الغلام فيها الخلّ فأعطى خمرا، قال له أصحابه:
« نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره، ولعلّ خالدا يفلت، وهو الّذى يهدم المساجد ويبنى البيع والكنائس، ويولّى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذّمّة المسلمات. » قال:
« لا والله، إن تركت هذا وأتيت خالدا لعلّى لا أظفر منه بما أريد ويفوتني هذا، والله يقول: « قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ. » قالوا:
« أنت ورأيك. » فأتاه، فقتله، فنذر بهم النّاس، وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطّريق هرّابا، وخرجت البرد إلى خالد، فأعلموه أنّ خارجة خرجت وهم لا يدرون من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط حتى أتى الحيرة في خلق كثير، وكان قدم في تلك الأيّام قائد من أهل الشّام من بنى القين، قد وجّهوهم مددا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة. فقصدها خالد ودعا رئيسهم وقال له:
« قاتل هؤلاء المارقة، فإني أعطى من قتل منهم واحدا عطاء سوى ما قبض بالشّام وأعفيه من الخروج إلى أرض الهند. » وكان الخروج إلى أرض الهند شاقّا عليهم، فسارعوا إلى ذلك وقالوا:
« نقتل هؤلاء النّفر ونرجع إلى بلادنا. » فتوجّه القينيّ إليهم في ستّمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفه. وقال القائد:
« لا تكونوا معنا. » وإنّما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم، فيكون الظّفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد.
وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم حمل عليه، فطعنه في فرج درعه فأنفذه، فقال:
« قتلتني، قتلك الله. » فقال بهلول:
« إلى النّار أبعدك الله. » وولّى أهل الشّام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا الكوفة وبهلول وأصحابه يقتلونهم.
فأمّا الشّاميّون، فمن كان منهم على خيول جياد فأتوه.
وأمّا الشرط فإنّه لحقهم، فقالوا:
« اتّق الله فينا فإنّا مكرهون مقهورون. » فجعل يقرع رؤوسهم برمحه ويقول:
« الحقوا، النّجا النّجا. » وأصاب البهلول مع القيني بدرة. وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأى البهلول، فخرجوا يريدونه، فقتلوا. وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال:
« من قتل هؤلاء النّفر حتى أعطيه هذه الدّراهم؟ » فجعل هذا يقول، أنا، وهذا يقول: أنا. حتى عرفهم، وهم يرون أنّه من قبل خالد جاء ليعطيهم ثواب ما فعلوا.
فقال بهلول لأهل القرية.
« أصدق هؤلاء، هم قتلوا هؤلاء النّفر؟ » قالوا:
« نعم. » وكان خشي بهلول أن يكونوا ادّعوا ذلك طمعا في المال.
فقال لأهل القرية:
« انصرفوا أنتم. » وأمر بأولئك، فقتلوا.
وبلغ هزيمة القوم خالدا، فأنفذ إليهم جيشا مع قائد من بنى شيبان، فلقيهم بين الموصل والكوفة، فشدّ عليه البهلول، فقال:
« نشدتك الله والرّحم، فإني جانح مستجير. » فكفّ عنه وانهزم أصحابه. فأتى خالدا وهو بالحيرة، فلم يرعه إلّا الفلّ قد هجم عليه، وارتحل البهلول يريد الموصل، فكتب عامل الموصل إلى هشام أنّ خارجة خرجت وأنّه يخافهم ويسأله جندا يقاتلهم به.
فكتب إليه هشام:
« وجّه إليه كثارة بن بشر. » وكان هشام لا يعرف البهلول إلّا بلقبه. فكتب إليه العامل:
« إن الخارج هو كثارة! » وكان البهلول قال لأصحابه:
« ما نصنع بابن النّصرانية؟ يعنى خالدا وإنّما خرجت لله، فلم لا نطلب الرّأس الّذى يسلّط خالدا وأشباهه؟ » فتوجّه إلى الشّام يريد هشاما، فخاف عمّال هشام موجدته، إن تركوه يجوز بلادهم إليه. فجنّد له خالد جندا من العراق، وجنّد له عامل الجزيرة جندا من الجزيرة، ووجّه إليه هشام جندا من الشّام. فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم، فنزل على باب الدير، فقالوا له:
« تزحزح عن باب الدّير حتى نخرج إليك. » فتنحّى وخرجوا. فلمّا رأى كثرتهم وهو في سبعين، جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل على أعدائه، فقال:
« أكلّكم يرجو أن يقتلنا ويسلم فيأتى أهله سالما؟ » قالوا:
« نعم، إنّا نرجو ذلك، إن شاء الله. » فشدّ على رجل عظيم من عظمائهم فقتله، وقال: