« أيّها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها وعاد السهم إلى منزعه ورجع الحقّ في نصابه في أهل بيته أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.
« أيها الناس، إنّا والله ما خرجنا في هذا الأمر لنكنز لجينا ولا ذهبا ولا لنحفر نهرا أو نبنى قصرا وإنّما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقّنا، والغضب لبنى عمّنا وما كرثنا من أمورنا وبهظنا من شؤونكم. » ثم وعد الناس خيرا وقال:
« أيها الناس، إنّ أمير المؤمنين - نصره الله نصرا عزيزا - إنّما قطعه عن استتمام الكلام شدّة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية. » فعجّ له الناس بالدعاء. ثم قال:
« أيها الناس، إنّه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله إلّا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى أبي العبّاس - واعلموا أنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا حتى نسلّمه إلى عيسى بن مريم . » ثم نزل داود بن عليّ، ونزل أبو العباس حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر أخاه يأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها حتى صلّى بهم العصر، ثم صلّى بهم المغرب وجهنّم الليل، فدخل.
وذكر أنّ داود بن عليّ وابنه كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة، فلقيهما أبو العبّاس ومعه أخوه أبو جعفر ومعهما عبد الله بن عليّ، وعيسى بن موسى، وصالح وعبد الصمد، وإسماعيل، وعبد الله بنو عليّ، ويحيى بن محمّد، وعبد الوهّاب ومحمّد ابنا إبراهيم، وموسى بن داود، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل. فقال لهم داود:
« أين تريدون وما قصّتكم؟ » فقصّ عليه أبو العبّاس فصّتهم وأنّهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم.
فقال له داود:
« يا با العبّاس، تأتى الكوفة وشيخ بنى مروان بحرّان - يعنى مروان بن محمّد - وهو مظلّ على العراق في أهل الشام والجزيرة وشيخ العرب يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق في حلبة العرب.
فقال له أبو العباس:
« يا عمّ، من أحبّ الحياة ذلّ. » ثم تمثّل بقول الأعشى.
فما ميتة إن متّها غير عاجز ** بعار إذا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال:
« صدق والله ابن عمّك، ارجع بنا معه نعش أعزّاء أو نموت كراما. » فرجعوا معه. وكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول:
« إنّ ركبا أربعة عشر خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم، كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم. » وخرج أبو العبّاس بحمّام أعين في عسكر أبي سلمة فنزل معه في حجرته وحاجب أبي العبّاس عبيد الله بن بسّام واستخلف على الكوفة وأرضيها داود بن عليّ وبعث عمّه عبد الله بن عليّ إلى أبي عون وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمّام بن العبّاس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمّد بن عمّار بن ياسر إلى بسّام بن إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طوّاف.
وأقام أبو العبّاس في العسكر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشميّة في قصر الإمارة، وقد كان تنكّر لأبي سلمة قبل تحوّله حتى عرف بذلك.
وفي هذه السنة هزم مروان بن محمّد.
هزيمة مروان بن محمد ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها

كان أبو عون وجّهه قحطبة إلى شهرزور وبها عثمان بن سعيد من قبل مروان فقتله أبو عون وأقام بناحية الموصل وبلغ ذلك مروان، فأقبل من حرّان حتى سار إلى الموصل فنزل على الزاب وحفر خندقا، فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، ووجّه أبو سلمة إليه مددا وعدّة من القوّاد. فلمّا ظهر أبو العبّاس، بعث إليه أيضا عدّة من القوّاد ومددا آخرين.
ثم قال أبو العبّاس:
« من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ » فقال عبد الله بن عليّ:
« أنا. » فقال:
« سر على بركة الله. » فسار عبد الله بن عليّ حتى قدم على أبي عون فتحوّل له أبو عون عن سرادقه وخلّاه له بما فيه. فسأل عبد الله بن عليّ عن مخاضة فدلّ عليها بالزاب، فأمر عيينة بن موسى فعبر في خمسة آلاف، وانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، فرجع عيينة إلى عسكر عبد الله بن عليّ، فأصبح مروان فعقد جسرا، وسرّح ابنه عبد الله وقال له:
« امض حتى تكون أسفل من عسكر ابن علي. » وبعث إليه من ورائه من يشغله، ففعل ذلك وبعث عبد الله بن عليّ المخارق بن عفّان في أربعة آلاف حتى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن مروان. فبعت عبد الله بن مروان الوليد بن معاوية، وسار إليه مروان فقال مروان لمّا التقى العسكران لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز:
« إن زالت الشمس اليوم فلم يقاتلونا، كنّا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. » وأرسل مروان إلى عبد الله بن عليّ يسأله المواعدة فقال عبد الله:
« كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. » فقال مروان لأهل الشام:
« لا تبدأوهم. » وجعل ينظر إلى الشمس. فحمل الوليد بن معاوية بن مروان وهو ختن مروان على ابنته. فغضب وشتمه وتمّم الوليد حملته، فهزم أبا عون فانحاز إلى عبد الله بن عليّ. فقال موسى بن كعب:
« مر الناس أن ينزلوا. » فنودي:
« الأرض، الأرض. » فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فحمل أهل الشام كأنهم جبال حديد، ومالوا على أصحاب عبد الله بن عليّ كأنّهم سحابة فصبروا لهم على حالهم. فقال:
« إنّ مروان كان لا يدبّر شيئا إلّا عرض فيه خلل وفساد. » حتى قال:
« أخرجوا إلى الناس الأموال. » فأخرجت وقال للناس:
« اصبروا وقاتلوا، وهذه الأموال لكم. » فجعل ناس يصيبون من ذلك المال، فأرسل إليه:
« إنّ الناس قد مالوا إلى هذا المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به. » فأرسل إلى ابنه عبد الله أن:
« سر إلى مؤخّر عسكرك، فمن مرّ بك ومعه شيء من المال فاقتله وامنعهم. » فمال عبد الله برايته وتبعه أصحابه. فقال الناس:
« الهزيمة. » فانهزموا.
قتل إبراهيم محمد وما قالوه في سبب قتله

وفي هذه السنة كان قتل إبراهيم بن محمّد بن عبد الله بن عليّ بن العبّاس. وقد اختلف الناس فيه فقال بعضهم: لم يقتل ولكن مات في السجن بالطاعون. وقيل: لمّا انهزم مروان بالزاب عاد إلى حرّان، فاستعرض أهل السجن، فوجدهم قد هلكوا وقتل خليفة مروان بعضهم. فأطلق مروان من بقي منهم، وكان إبراهيم الإمام ممّن هلك. ويقال: بل هدم مروان عليه بيتا فقتله. وحكى بعض خدم إبراهيم ممّن كان يخدمه في محبسه قال: كان معه في الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فخصّ بين إبراهيم وشراحيل، وكانا يتزاوران، فأتاه رسول من شراحيل يوما بلبن فقال:
« يقول لك أخوك إني شربت من هذا اللبن فاستطبته، فأحببت أن تشرب منه. »
فتناوله، فشرب منه فتوصّب من ساعته وتكسّر جسده. وكان يوما يأتى فيه شراحيل، فأبطأ عليه.
فأرسل إليه: « جعلت فداك قد أبطأت فما حبسك؟ » فأرسل إليه: « إني لمّا شربت اللبن الذي أرسلت به إليّ أخلفنى. » فأتاه شراحيل مذعورا وقال:
« لا والله الذي لا اله إلّا هو، ما شربت اليوم لبنا ولا أرسلت به إليك فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، أحتيل لك والله. » قال: فما بات إلّا ليلته وأصبح من الغد ميّتا. وفي هذه السنة قتل مروان بن محمّد.
ذكر الخبر عن مقتل مروان وما عومل به في طريقه وهو هارب وما لقي من أصحابه

حكى أبو هاشم مخلّد بن محمّد قال: لمّا هزم مروان من الزاب كنت في عسكره، وكان معه مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن عليّ في عشرين ألفا، فلمّا انهزم مروان سار إلى الموصل وعليها هشام بن عمرو وبشر بن خزيمة، فقطعا الجسر ومنعاه.
فناداهم أهل الشام:
« هذا مروان. » قالوا: « كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ. » فسار إلى بلد فعبر دجلة، ثم أتى دمشق وخلّف بها الوليد بن معاوية، وقال:
« قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام. »
ومضى مروان إلى فلسطين فنزل نهر أبي فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي وسوّد. فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع فأجازه وكتب أبو العبّاس إلى عبد الله بن عليّ يأمره باتباع مروان.
فسار عبد الله إلى الموصل فتلقّاه هشام بن عمرو، وبشر بن خزيمة قد سوّد في أهل الموصل، وفتحوا له المدينة، وولّى الموصل ابن صول. ثم سار إلى حرّان، فهدم الدار التي حبس فيها إبراهيم بن محمد. ثم سار من حرّان إلى منبج وقد سوّدوا، فنزل مدينة منبج وقدم عليه أبو حميد المروروذى، وبعث إليه أهل قنّسرين ببيعتهم كما أتاه به عنهم أبو أميّة. وقدم عليه عبد الصمد بن عليّ أمدّه به أبو العبّاس في أربعة آلاف فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد. ثم سار إلى قنّسرين فأتاها وقد سوّد سار إلى بعلبك فأقام يومين ثم ارتحل فنزل مزّة قرية من قرى دمشق، وقدم عليه صالح بن عليّ مددا فنزل مرج عكبراء في ثمانية آلاف، وفرّق أصحابه على أبواب دمشق وحاصروها والبلقاء، وتعصّب الناس بالمدينة وقتل بعضهم بعضا، وقتلوا الوليد، وفتحوا المدينة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.