« إنّ الخيل لا عمل لها مع الرجّالة، وإني أخاف إن كشفوكم أن يدخلوا عسكركم. » فرفعهم إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهي على أربعة أميال من المدينة وقال:
« لا يهرول الرجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل. » فتحدّث محمّد بن أبي الكرام بن عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن جعفر قال:
أرسلنى عيسى لمّا قرب من المدينة بأمانه إلى محمّد. فقال محمّد:
« علام تقاتلوننى وتستحلّون دمى؟ وإنّما أنا رجل فرّ من أن يقتل. » قال: فقلت:
« القوم يدعونكم إلى الأمان، فإن أبيت إلّا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آباءك عليّ طلحة والزبير على نكث بيعتهم وكيد ملكهم والسعى عليهم. » فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لي:
« بعد والله ما سرّنى أنّك قلت له غير ذلك وأنّ لي ملك كذا. » وبقي عيسى ثلاثة أيّام يبرز بنفسه ويدعو أهل المدينة إلى الأمان ويقول:
« نحن إخوانكم مسلمون فلا تهريقوا بيننا الدماء، ادخلوا في الأمان واخرجوا من المدينة وأنتم آمنون، وخلّوا بيننا وبين صاحبنا. » فيشتمونه الشتيمة القبيحة حتى حارب اليوم الثالث.
فلقى أبو القلمّس محمّد بن عثمان أخا أسد بن المرزبان بسوق الحطّابين، فاجتلدا بسيفيهما حتى تقطّعا، ثم تراجعا إلى مواقفهما وأخذ أخو أسد سيفا وأخذ أبو القلمّس أثفيّة، فوضعها على قربوس سرجه وسترها بدروعه، ثم تعاودا، فلمّا تدانيا قام أبو القلمّس في ركابيه، ثم ضرب بها صدره وصرعه ونزل فاحتزّ رأسه.
وبدر رجل من أهل المدينة مولى لآل الزبير يدعى القاسم بن وائل، فدعا للبراز فبرز له رجل لم أر أكمل عدّة منه، فلمّا رآه ابن وائل انصرف عنه. قال:
فوجد أصحاب محمّد من ذلك وجدا شديدا. فإنّا لعلى ذلك إذ سمعت حفيف رجل ورائي، فالتفتّ فإذا أبو القلمّس، فسمعته يقول:
« لعن الله أمّ السفهاء إن ترك هذا اجترأ علينا وإن خرج رجل خرج إلى أمر عسى ألّا يكون من شأنه. » ثم برز له فقتله وكان الرجل هزار مرد، وضربه أبو القلمّس على حبل عاتقه وقال:
« خذها وأنا ابن الفاروق. » فسمعت رجلا من أصحاب عيسى يصيح به:
« قتلت خيرا من ألف فاروق. » ثم قال عيسى لحميد بن قحطبة:
« تقدّم. » فتقدّم في مائة كلّهم راجل غيره معهم القسّى والنشّاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق عليه أناس من أصحاب محمّد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، وأرسل حميد إلى عيسى أن يهدم الجدار. قال:
« فأرسل إليّ فعلة. » فأرسلهم فهدموه وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى:
« إنّا قد انتهينا إلى الخندق. » فأرسل إليه عيسى أن:
« اطرح حقائب الإبل في الخندق. » وأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي في الثنيّة فطرحا على الخندق فجازت الخيل، فالتقوا عند منابح خشرم واقتتلوا إلى العصر، وانصرف محمّد يومئذ قبل الظهر حتى جاء إلى دار مروان فاغتسل وتحنّط ثم خرج، فدنا منه عبد الله بن جعفر فقال له:
« بأبي أنت، إنّه والله ما لك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال، فاخرج الساعة حتى تلحق بمكّة فإنّ بها الحسن بن معاوية ومعه جلد أصحابك. » فقال:
« يا أبا جعفر، والله لو خرجت لقتل أهل المدينة حتى لا يبقى بها صافر، ولست أرجع حتى أقتل أو أغلب، وأنت في حلّ مني وسعة، فاذهب حيث شئت. » قال: فخرجت معه حتى جاء إلى دار ابن مسعود في سوق الظهر، وركضت فأخذت على الزياتين، ومضى إلى الثنيّة وقتل أصحابه بالنّشاب، وجاءت العصر فصلّى.
قال: فرأيت محمّدا راكبا وإلى جانبه ابن حضير يناشده الله إلّا مضى إلى البصرة أو غيرها ومحمّد يقول:
« والله لا يبتلون بي مرّتين، ولكن اذهب حيث شئت فأنت في حلّ. » قال ابن حضير:
« وأين المذهب عنك؟ » ثم مضى، فأحرق الديوان وقتل رياحا ثم لحقه بالثنيّة وقاتل بين يديه حتى قتل. وكان ابن حضير ذبح رياحا ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى مات أقبح ميتة.
ثم صلّى محمّد العصر، ونزل عن دابّته وكسر غمد سيفه، ولم يبق معه أحد إلّا وكسروا أغماد سيوفهم، ثم أقبل على ابن حضير فقال:
« أحرقت الديوان؟ »
قلت: « نعم. خفت أن يؤخذ الناس عليه. » قال: « أصبت. » ثم حمل.
قال أزهر: فحدّثني أخواى قالا: هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرّتين أو ثلاثا، ولكنّا لم نكن نعرف الهزيمة. ولقد سمعنا يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يقول:
« وقد هزمناهم، ويل أمّه فتحا لو كان له رجال. » فبينا هم كذلك، إذ صعد رجل إلى ظهر سلع ومعه رمح قد نصب عليه رأس رجل متّصلا بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، فرأيت منظرا هائلا وذعر منه الناس والأعاريب فأجفلت هاربة حتى أسهلت وعلا الرجل الجبل، ونادى أصحابه رطانة لهم بالفارسيّة: كوهبان، فصعد إليه أصحابه حتى علوا سلعا فنصبوا عليه راية سوداء، ثم انصبّوا إلى المدينة فدخلوها.
وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عبّاس بن عبد المطلّب، وكانت تحت عبيد الله بن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العبّاس بخمار أسود فنصب على منارة مسجد رسول الله فلمّا رأى ذلك أصحاب محمّد تنادوا:
« دخلت المدينة، دخلت المدينة. » وهربوا. وبلغ الناس الذين تنادوا دخول الناس من ناحية سلع. فقال.
الناس الذين مع محمّد:
« لكلّ قوم جبل يعصمهم ولنا جبل لا نؤتى إلّا منه. »
وكان ابن حضير يحمل راجلا، ويخالط العدوّ، فكانت الخراسانية إذا نظروا إلى ابن حضير تنادوا بينهم:
« خضير آمذ، خضير آمذ. » فيتضعضعون إلى أن خالد الناس مرّة فضرب ضارب على أليته فحلّها، فرجع إلى أصحابه فشقّ ثوبا، ثم عصبها بظره، ورجع فضارب حتى ضرب على حجاج عينه وخرّ، فابتدره القوم فحزّوا رأسه. وأقبل محمّد راجلا فجعل يقاتل على جيفته فضربه رجل على أذنه اليمنى فبرك لركبته وتعاودا عليه وصاح حميد بن قحطبة:
« لا تقتلوه. » فكفّوا.
وجاء حميد فاحتزّ رأسه.
وحكى أخو الفضل بن سليمان النميري قال: كنّا مع محمّد قد أطفنا به وكان قد أطاف بنا أربعون ألفا أو أكثر، وكانوا حولنا كالحرّة السوداء، فقلنا له:
« لو حملت لانفرجوا عنك. » فقال: « إنّ أمير القوم لا يحمل، إنّه إن حمل لم تكن بقيّة. » حتى أصاب ابن حضير ما أصابه فحمل والتقوا عليه فقتلوه.
قال أبو الحجّاج الحمّال: كنت يوما قائما على رأس أبي جعفر وهو يسائلني عن مخرج محمّد إذ أتاه الخبر أنّ عيسى هزم، وكان متّكئا، فجلس فضرب بقضيب معه مصلّاه وقال:
« كلّا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ما أنى لذلك بعد. »
ولمّا قتل محمّد هجم الناس على دور المدينة فقتل خلق كثير إلى أن قتل أبو الشدائد وجيء برأسه فاستعظم من كان عند عيسى ذلك واسترجعوا، ثم قالوا:
« ما بقي بالمدينة أحد بعد قتل هذا. » فأمر عيسى بألوية ففرّقها على باب باب من أبواب العبّاسيين وأهل الفقه ممّن عرفهم وقال: ليناد المنادى:
« من دخل تحت لواء منها أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن. » « من جاءنا برأس ضربنا رأسه. » فتحدّث عيسى قال: حدّثتنى أمّ حسين بنت عبد الله بن محمّد بن عليّ بن الحسين قالت: قلت لعمّى جعفر بن محمّد:
« أبي فديتك ما أمر محمّد هذا؟ » قال: « فتنة يقتل محمّد بن عبد الله عند بيت روميّ ويقتل أخوه إبراهيم بالعراق وحوافر فرسه في ماء. » وحمل رأس محمّد إلى أبي جعفر وهو بالكوفة، فأمر فطيف به في طبق أبيض.
وتحدّث الحسن بن زيد قال: غ*** يوما على أبي جعفر فإذا هو قد أمر بعمل دكّان ثم أقام عليه جلّادا وأتى بعلي بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثم أتى بعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، فأمر به فجلد خمسمائة سوط، فما تحرّك واحد منهما فأقبل علّى وقال لي:
« هل رأيت أصبر من هذين قطّ؟ والله إنّا لنؤتى بالذين قاسوا غلظ المعيشة وكدّها فما يصبرون هذا الصبر وهولاء أهل الخفض والكنّ والنعمة. » قال: فقلت:
« يا أمير المؤمنين، هولاء قومك أهل الشرف والقدر. » فأعرض عني وقال:
« أبيت إلّا العصبيّة. » فلمّا كان بعد أيّام أعاد عبد العزيز بن إبراهيم ليضربه، فقال: