« كيف لا يكذب عليّ من خلفي وهو يبهتني في وجهى؟ » فقال له الرشيد:
« وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوّك وفساد نيّتك ولو أردت أن أحتجّ عليك بحجّة لم أجد أعدل من هذين لك فبم تدفعهما عنك؟ » فقال عبد الملك:
« هو مأمور أو عاقّ مجبور. فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقّا ففاجر كفور. أخبر الله بعداوته وحذّر منه بقوله: إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم. » قال: فنهض الرشيد وهو يقول:
« أمّا أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضى الله فيك، فإنّه الحكم بيني وبينك. » فقال عبد الملك:
« رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنّه يؤثر كتاب الله على هواه وأمر الله على رضاه. » فلمّا كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلّم لمّا دخل فلم يردد عليه، فقال عبد الملك:
« ليس هذا يوما أحتجّ فيه، ولا أجاذب منازعا وخصما. » قال: « ولم؟ » قال: « لأنّ أوّله جرى على غير السنّة، فأنا أخاف آخره. » قال: « وما ذاك؟ »
قال: « لم تردّ عليّ السلام، أنصف نصفة العوامّ. » قال: « السلام عليكم اقتداء بالسنّة وإيثارا للعدل واستعمالا للتحيّة. » ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:
أريد حباءه ويريد قتلى ** عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: « أمّا والله لكأنّى أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وعارضها وقد لمع، وكأنّى بالوعيد قد أورى نارا تستطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلا مهلا فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمّتها، ونذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرّجل. » فقال عبد الملك:
« اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما ولّاك، وفي رعيّته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وسددت أواخى ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوّك مشغولا بنفسه. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن بللته بظنّ أفصح الكتاب لي بغضه أو ببغى باغ ينهس اللحم، ويالغ الدمّ فقد والله سهّلت لك الوعور، وذلّلت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور. فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيّق لك قمته، كنت فيه كما قال أخو بنى جعفر بن كلاب:
ومقام ضيّق فرّجته ** بلساني وبيانى وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ** زلّ عن مثل مقامي وزحل
ما ذكره زيد بن علي بن الحسين العلوي في الرشيد وحبسه ابن صالح

وذكر زيد بن عليّ بن الحسين العلويّ قال: لمّا حبس الرشيد عبد الملك بن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك وهو يومئذ على شرطه قال:
« أفي أذن أنا فأتكلّم؟ » قال: « تكلّم. » قال: « لا والله العظيم الرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلّا ناصحا فعلام حبسته؟ » قال: « ويحك، أوحشنى حتى لم آمنه أن يضرّب بين ابنيّ هذين - يعنى الأمين والمأمون، فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس، أطلقناه. » قال: « أمّا إذا حبسته يا أمير المؤمنين فإني لست أرى في قرب المدّة أن تطلقه. ولكن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك. »
قال: « فإني أفعل. » قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال:
« امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه وقل له: انظر ما تحتاج إليه في محبسك. فآمر به أن يقام لك. » فذكر ما يحتاج إليه فأقيم له.
كلام بين الرشيد وابن صالح

وقال الرشيد يوما لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلّمه:
« ما أنت لصالح. » قال: « فلمن أنا؟ » قال: « لمروان الجعديّ. » قال: « ما أبالى أيّ الفحلين غلب عليّ. » ولم يزل محبوسا حتى توفّى الرشيد فأطلقه محمّد وعقد له على الشام.
فكان مقيما بالرقّه وجعل لمحمّد عهد الله وميثاقه لئن قتل وهو حيّ لا يعطى المأمون طاعة أبدا. فمات قبل محمّد، فدفن في دار من دور الإمارة. فلمّا صار الأمر إلى المأمون أرسل إلى ابن له:
« حوّل أباك من دارى. » فنبش وحوّل.
استعلام الرشيد يحيى بن خالد في عبد الملك بن صالح

وكان الرشيد بعث في بعض أيّامه إلى يحيى بن خالد:
« أنّ عبد الملك بن صالح أراد الخروج عليّ ومنازعتي في الملك، وقد صحّ عندي ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنّك إن صدقتني أعدتك إلى حالك. » فقال:
« والله يا أمير المؤمنين، ما اطّلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطّلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأنّ ملك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني والخير والشرّ كان فيه عليّ، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك مني، وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك بي أعيذك بالله أن تظنّ بي هذا الظنّ. ولكنّه كان رجلا محتملا يسرّنى أن يكون في أهلك مثله فولّيته لما أحمدت من مهذبه، وملت إليه لأدبه واحتماله. » قال: فلمّا أتاه الرسول بهذا، أعاده إليه، فقال:
« إن أنت لم تقرّ عليه قتلت الفضل ابنك. » فقال له: « أنت مسلّط علينا فافعل ما أردت على أنّه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فما يدخل الفضل في هذا. » فقال الرسول للفضل:
« قم، فإنّه لا بدّ لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك. » فلم يشكّ أنّه قاتله، فودّع أباه وقال:
« ألست راضيا؟ » قال: « بلى، فرضي الله عنك. » ففرّق بينهما ثلاثة أيّام فلمّا لم يجد عنده في ذلك شيئا، جمعهما كما كانا.
وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل لما كان أعداؤهم يقرفونهم به.
أسئلة وأجوبة بين الرشيد وعبد الملك بن صالح

وكان عبد الملك حاضر الجواب، جيّد الرويّة، وهو الذي قال للرشيد وقد مرّ به بمنبج مستقر عبد الملك. فسأله:
« أهذا منزلك؟ » قال: « هو لك يا أمير المؤمنين ولى بك. » قال: « كيف هو؟ » قال: « دون بناء أهلى، وفوق منازل منبج. » قال: « كيف ليلها. » قال: « سحر كلّه. »