« لا أرى مفارقة منزلة السلامة فلعلّى أعطى معها العافية. » فقال الحسن بن سهل:
« قد وجب حقّكم باجتهادكم وإن كنتم معذورين، فإنّ رأيي مخالف لرأيكم. » فقال له المأمون:
« فناظرهم. » قال: « لذلك ما كان الاجتماع. » وأقبل عليهم الحسن فقال:
« هل تعلمون أنّ محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ » فقالوا: « نعم ويحتمل ذاك لما يخاف من ضرر منعه. »
قال: « فهل تثقون بأن يكفّ إذا أعطيناه ما سأل، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ » قالوا: « لا، ولعلّ سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقّع. » قال: « فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهّن بما بذل من نفسه فيها. » قالوا: « ندفع بمحذور الآجل محذور العاجل. » قال: « فإنّ الحكماء قبلنا قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض في مكروه يومك ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. » فأقبل المأمون على الفضل وقال:
« ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ » قال: « هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوّتك، ليستظهر بها غدا على مخالفتك، وهل يصير الخازم إلى فضله من عاجل الدعة بخطر يتعرّض له في العاقبة؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل عاجل، فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. » فقال المأمون:
« بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا وأمر آخرة. » قال القوم:
« قد قلنا بمبلغ الرأي والله للأمير بالتوفيق. » فقال: « اكتب يا فضل إليه:
« قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سمّاها، ممّا أثبته الرشيد في العقد لي، وجعل أمره إليّ وما أمر رآه أمير المؤمنين مما يتجاوز، غير أنّ الذي جعل إليّ الطرف الذي أنا به كان غير ظنين في النظر لعامّته ولا جاهل بما أسند إليّ من أمره. ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة ثم، كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوّ مخوف الشوكة وعامّة لا تتألف عن هضمة، وأجناد لا تستتبع طاعتها إلّا بالأموال وطرف من الإفضال، لكان في نظر أمير المؤمنين لعامّته وما يجب من لمّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحقّ. وإني لأعلم أنّ أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إليّ، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان، إن شاء الله. » واستشار أيضا محمد أصحابه فيما همّ به.
ذكر آراء أشير بها على محمد الأمين

قال يحيى بن سلم وقد دعاه الأمين واستشاره:
« يا أمير المؤمنين كيف بذاك مع تأكيد الرشيد بيعته وأخذه الأيمان والمواثيق في الكتب؟ » فقال محمد:
« إنّ رأى الرشيد كانت فلتة من الخطأ شبّه عليه جعفر بن يحيى بسحره، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه [ معه ] إلّا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور ولا تصلح إلّا باجتثاثه والراحة منه. » فقال: « أمّا إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره فيستكبرها الناس وتستشنعها العامّة، ولكن تستدعى الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرّق ثقاته ومن معه وترغّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع. فإذا وهنت قوّته ولم تبق له منّة أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه وإن أبي كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه وهيض جناحه. » قال محمد:
« فأقطع أمرا كصريمة. أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأى مصيب، فزل عن هذا الرأي إلى رأى الشيخ الموفّق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك. » فقال يحيى:
« غضب يشوبه صدق وتجلبه نصيحة، أحبّ إليّ من رضا يخلطه جهل ويحمله جهل. » وبعث الفضل إلى أحد من رضى عقله ورأيه فاستشاره، فعظّم الرجل عليه أمر البيعة للمأمون، وقبّح الغدر والنكث. فقال الفضل:
« صدقت، ولكن عبد الله أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما عقده الرشيد وأمير المؤمنين يرى اليوم لنفسه ولرعيّته ما لم يره الرشيد يومئذ. » فقال: « أفتثبت الحجّة عند عامّة الناس بهذا الحدث الذي أحدثه المأمون كما تثبت الحجّة له بمأخوذ عهده؟ » قال: « لا. » قال: « أفحدث هذا الحدث عندكم ممّا يوجب نقض عهدكم ولم يكن حدث ولا كان معلوما. » قال: « نعم. » فقال الرجل ورفع صوته:
« تالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يشاور في دفع ملك في يده بالحجّة، ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة. » قال: فأطرق الفضل مليّا ثم قال: