« أيّها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن حضرت، فإنّما قصدنا ثواب الله ووجهه، ولو أردنا الحياة لقعدنا في منازلنا، فدعنا وحدنا حتى نتقدّم بعد أن يكون بأذنك، فلعلّ الله أن يفتح علينا. » فقال الأفشين:
« أرى نيّاتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وقد نشطتم ونشط أصحابي وقد حدث لي الساعة رأى في ذلك وهو خير إن شاء الله، اعزموا على بركة الله أيّ يوم شئتم حتى نناهضه، لا حول ولا قوّة إلّا بالله. » فخرج القوم مستبشرين، فمن كان أراد الانصراف أقام ومن كان خرج ثم سمع بذلك رجع.
ووعد الناس ليوم، وتقدّم إلى الناس بأخذ الأهبة ثم خرج وأخرج المحامل على البغال لمن لعلّه يجرح، وأخرج المتطبّبين، وزحف الناس، حتى صعد إلى المكان الذي كان يجلس فيه وطرح له النطع ووضع عليه الكرسيّ كما كان يفعل وقال لأبي دلف:
« قل لأصحابك أيّ ناحية هي أسهل عليهم فليقتصروا عليها. » وقال لجعفر:
« العسكر كلّه بين يديك والناشبة والنفّاطون أمامك، فخذ حاجتك واعزم على بركة الله، ادن من أيّ موضع شئت. » قال: « أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه. » قال: « امض. » ثم دعا أبا سعيد فقال له:
« قف بين يديّ أنت وجميع أصحابك ولا يبرحنّ منكم أحد. » ودعا أحمد بن الخليل فقال له:
« قف أنت أيضا وجميع أصحابك ها هنا ودعوا جعفرا يعبر ومن معه من الرجال، فإن أراد رجالا وفرسانا أمددناه. »
توجه أبي دلف نحو حائط البذ

فتوجّه أبو دلف مع المطوّعة نحو حائط البذّ وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم وحمل جعفر حملة حتى ضرب باب البذّ كما فعل تلك الدفعة ووقف على الباب وواقفه الخرّمية ساعة، فوجّه الأفشين برجل معه بدرة دنانير وقال:
« قل لأصحاب جعفر: من تقدّم حثوت له ملء كفّى. » ودفع بدرة أخرى دنانير إلى آخر، وقال:
« اذهب إلى موضع المطوّعة وقل مثل ذلك. » وبعث بأطواق وأسورة مع البدرتين، واشتبكت الحرب، ثم فتح الخرّمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحّوهم عن الباب وشدّوا على المطوّعة من الناحية الأخرى فرموهم عن السور، وأخذوا علمين لهم وشدخوهم بالصخر حتى أثّروا فيهم ورقّوا عن الحرب. وصاح جعفر بأصحابه فبدر منهم نحو مائة رجل فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم وواقفوهم متحاجزين لا هؤلاء يقدمون ولا هؤلاء، حتى صلى الناس الظهر يختلف بينهم النشّاب والحجارة.
فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه إلى جعفر بكردوس فقال جعفر:
« لست أوتى من قلّة الرجال، معي رجال ولكن لست أرى للحرب موضعا وقد انقطعت الحرب. » فبعث إليه:
« انصرف على بركة الله. » فانصرف جعفر وتقدّم الأفشين بحمل الجرحى ومن به وهن من الحجارة في المحامل التي على البغال وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ ويئس الناس من الفتح في تلك السنة وانصرف أكثر المطوّعة.
ثم إنّ الأفشين تجهّز بعد جمعتين فلمّا كان في الليل بعث الرجّالة الناشبة وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كلّ واحد منهم شكوة وكعكا، ودفع إليهم أعلاما سودا وقال:
« سيروا حتى تصيروا خلف التلّ الذي عليه آذين» - وهو صاحب جيش بابك.
وأرسل مهم الأدلّاء وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد حتى يروا أعلام الأفشين عند صلاة الغداة، فحينئذ فركّبوا الأعلام على الرماح واضربوا بالطبول وانحدروا من فوق الجبل وارموا بالنشّاب والصخر على الخرّمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره.
ففعلوا ذلك ووافوا رأس الجبل عند السحر وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي.
فلمّا كان السحر وجّه الأفشين إلى القوّاد أن:
« اركبوا في السلاح. » فركبوا، وأخرج النفّاطين والشمع وضرب بالطبل حتى وافى الموضع الذي كان يقف عليه وبسط النطع ووضع الكرسيّ لعادته، وكان بخاراخذه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراخذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفر الخيّاط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم. فمضوا جميعا حتى صاروا كالحلقة حول التلّ وارتفعت الضجّة وتحرّك الكمين واشتبكت الحرب.
فلمّا سمع الرجّالة الناشبة الذين تقدّموا صوت الطبول ورأوا الأعلام وركّبوا أعلامهم وانحدروا على أصحاب آذين وحمل جعفر الخيّاط وأصحابه حتى صعدوا إليهم ثم حملوا حملة منكرة، قلبوه وأصحابه في الوادي.
وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلا عليها صخرة. فلمّا حمل الناس دفع العجل على الناس، فأفرج الناس عنها حتى تدحرجت ثم حمل الناس من كلّ وجه.
بابك يريد الأمان

فلمّا نظر الناس إلى ذلك كبّروا ونظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، فخرج من طرف البذّ من باب يلي الأفشين يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل، فأقبل بابك يسأل عن الأفشين فقال لهم المطوّعة وأصحاب أبي دلف:
« من هذا؟ » فقالوا: « بابك، يريد الأفشين. » فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه ذلك. فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك. فنظر إليه، ثم عاد إليه فقال:
« نعم هو بابك. » فركب إليه الأفشين، فدنا منه حيث يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له:
« أريد الأمان من أمير المؤمنين. » فقال له الأفشين:
« قد عرضت عليك هذا وهو لك مبذول متى شئت. »
فقال: « قد شئت الآن على أن تؤجّلنى أجلا أحمل فيه عيالي وأتجهّز. » قال له الأفشين:
« قد والله نصحتك غير مرّة وأنا أنصحك الساعة: خروجك اليوم في الأمان خير من غد. » قال: « قد قبلت أيّها الأمير. » قال له الأفشين:
« فابعث بالرهائن التي كنت سألتك. » قال: « نعم. أمّا فلان وفلان فهم على ذلك الجبل، فمر أصحابك بالتوقّف عنهم. » فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس. فقيل له:
« من يردّ الناس؟ إنّ أعلام الفراغنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها إلى القصور. » فصاح الأفشين بالناس ودخل ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق القصور وقد كان بابك كمّن في قصوره وهي أربعة، ستمائة راجل. فوافاهم الناس فصعدوا فوق القصور بالأعلام وامتلأ شارع البذّ وميدانها من الناس وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور وخرجوا يقاتلون الناس، ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتاذ سر واشتغل الأفشين وقوّاده بالحرب على أبواب القصور وأحضروا النفّاطين فصبّوا عليهم النفط والناس والنار يهدمون القصور حتى قتلوهم عن آخرهم.
وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاتهم وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا، وكان عامّة الخرّمية في البيوت فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
فذكر الناس أنّ بابك وأصحابه حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتاذ سر، فلمّا كان من الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ