وذكر أنّ المستعين كان كارها للنقلة عن دار محمد بن عبد الله ولكنّه انتقل من أجل أنّ الناس ركبوا الزواريق بالنفّاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليه فتح الباب وكان يسمع دائما شتم الناس له وتناولهم عرضه بالقبيح. ثم إنّ قوما وقفوا بباب الشمّاسية من قبل أبي أحمد فطلبوا ابن طاهر ليكلّموه. فكتب صالح إلى وصيف يعلمه خبر القوم ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فردّ المستعين الأمر فيه إليه وقال:
« إنّ التدبير في جميع أموره مردود إليه. » فتقدّم فيه محمد بما رأى.
ولم يزل بعد ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبد الله بن يحيى يفتلون في الذروة والغارب ويشيرون على محمد بالصلح. فذكر قوم أنّهم سألوا سعيد بن حميد بعد ذلك بدهر وقالوا:
« ما ينبغي أن يكون محمد إلّا مداهنا وأنّه كان انطوى على غلّ في أوّل أمره. » فقال: « وددت أنّه كان كذلك، لا والله ما هو إلّا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى توالت الهزائم عليه. » فأجاب القوم بعد أن كان قد جادّهم.
وحكى أحمد بن يحيى النحوي وكان يؤدّب ولد ابن طاهر: أنّ محمد بن عبد الله لم يزل جادّا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبد الله بن يحيى بن خاقان، فقال له:
« أطال الله بقاءك، إنّ هذا الذي تنصره بجدك وجهدك من أشدّ الناس نفاقا وأخبثهم دينا. والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك فاستعظما ذلك ولم يفعلاه فإن شككت في ذلك فسل تخبر، ومن ظاهر نفاقه أنّه كان بسرّ من رأي لا يجهر في صلاته ب: بسم الله الرحمن الرحيم، فلمّا صار إليك جهر بها مراءاة لك، ويترك نصرة وليّك وتربيتك وصهرك. » ونحو ذلك من الكلام.
فقال محمد بن عبد الله:
« هذا ما يصلح لدين ولا لدنيا. » فكان أوّل ما صدّ محمدا عن الجدّ في أمر المستعين. ثم ظاهر عبد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد حتى صرفوه عن رأيه في نصرة المستعين.
وركب محمد بن عبد الله يوما إلى المستعين وحضر عدّة من الفقهاء والقضاة. فقال للمستعين:
« قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمري في كلّ ما أعزم عليه، ولك عندي بخطّك رقعة بذلك. » فقال المستعين:
« أحضر الرقعة. » فأحضرها فإذا فيها ذكر الصلح وليس فيها ذكر الخلع. فقال:
« نعم أنفذ الصلح. » فقام ابن الجبلي فقال:
« يا أمير المؤمنين إنّه يسألك أن تخلع قميصا قمّصكه والله عز وجل. » وتكلّم قوم وتكلّم عليّ بن يحيى المنجّم فأغلظ لمحمد بن عبد الله فاحتمله ثم ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشمّاسية مضرب كبير أحمر وخرج مع مائتي فارس ومائتي راجل إلى المضرب، وجاءه أبو أحمد فخرج إليه ودخل معه المضرب ووقف الجند الذين مع كلّ واحد منهما ناحية. فتناظر ابن طاهر وأبوه أحمد طويلا ثم خرجا من المضرب وانصرف ابن طاهر إلى داره في زلال. ثم ركب من داره ومضى إلى المستعين يخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، فأقام عنده إلى العصر ثم انصرف.
فحكى أنّه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلّة ثلاثين ألف دينار في السنة على أن يكون مقامه ببغداد حتى يحمل له مال يعطى الجند وعلى أن يولى بغا مكّة والمدينة والحجاز ووصيف الجبل، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.
ثم ركب ابن طاهر في ذي الحجّة من هذه السنة ليناظره في الخلع، فناظره فامتنع عليه، وظنّ المستعين أنّ بغا ووصيفا معه فكاشفاه. فقال المستعين:
« هذه عنقي والسيف [ والنطع ]. » فلمّا رأى امتناعه انصرف عنه.
وبعث المستعين إلى ابن طاهر بعليّ بن يحيى وقوم من ثقاته وقال لهم:
« قولوا: اتّق الله إنّما جئتك لتدفع عني فإن لم تدفع عني فكفّ عني. » فردّ عليه:
« أمّا أنا فأقعد في بيتي ولكن لا بدّ لك من خلعها طائعا أو مكرها. » وذكر عن عليّ بن يحيى أنّه قال:
« قل له إن خلعتها فلا بأس عليها فو الله لقد تمزّقت تمزّقا لا ترقع أبدا وما تركت فيها فضلا. »
إجابة المستعين إلى الخلع

فلمّا رأى المستعين ضعف أمره ولم يجد ناصرا أجاب إلى الخلع على شريطة أشياء سألها. ولم يقنع المستعين إلّا بخروج ابن كردية إلى المعتزّ وهو من ولد المنصور وجماعة معه من ثقاته، وكان في شروطه أن ينزل مدينة الرسول وأن يكون مضطربه من مكّة إلى المدينة ومن مدينة إلى مكّة. فأجابه إلى ذلك. وكان سبب استجابة المستعين إلى الخلع أنّ وصيفا وبغا وابن طاهر أشاروا عليه بذلك فأغلظ لهم، فقال له وصيف:
« أنت أمرتنا بقتل باغر فصرنا إلى ما نحن فيه وأنت عرّضتنا لقتل أوتامش وقلت إنّ محمدا ليس بناصح فاقتلوه. » فقال محمد: