









أقول: تطلق السنة لغة وشرعًا على وجهين: الأول: الأمر يبتدئه الرجل فيتبعه فيه غيره. ومنه ما في صحيح مسلم في قصة الذي تصدق بصرة فتبعه الناس فتصدقوا فقال رسول الله: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها…» الحديث. والوجه الثاني: السيرة العامة، وسنة النبي
بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب، وتسمى الهدى. وفي صحيح مسلم: أن النبي
كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» هذا وكل شأن من شئون النبي
الجزئية المتعلقة بالدين من قول أو فعل أو كف أو تقرير، سنة بالمعنى الأول، ومجموع ذلك هو السنة بالمعنى الثاني. ومدلولات الأحاديث الثابتة هو السنة أو من السنة حقيقة، فإن أطلقت (السنة) على ألفاظها فمجاز أو اصطلاح؛ وإنما أوضحت هذا لأن أبا رية يتوهم أو يوهم أنه لا علاقة للأحاديث بالسنة الحقيقية.
مكانها من الدين
ثم قال (ص17): (مكان السنة من الدين. جعلوا السنة القولية في الدرجة الثانية أو في الدرجة الثالثة من الدين… وأما الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية).
أقول: المعروف بين أهل العلم قولهم: (الكتاب والسنة) ثم يقسمون دلالات الكتاب إلى قطعية وغيرها، والسنة إلى متواتر وآحاد، وإلى قول وفعل وتقرير، إلى غير ذلك من التقسيمات. وسيأتي ذكر (ثلاث مراتب) من صاحب المنار، وننظر فيه.
فأما منزلة السنة جملة من الدين فلا نزاع بين المسلمين أن ما ثبت عن النبيمن أمر الدين فهو ثابت عن الله عز وجل، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، منها: { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وكل مسلم يعلم أن الإيمان لا يحصل إلا بتصديق الرسول فيما بلغه عن ربه، وقد بلغ الرسول بسنته كما بلغ كتاب الله عز وجل. ثم تكلم الناس في الترتيب بالنظر إلى التشريع، فمن قائل: السنة قاضية على الكتاب.
13وقائل: السنة تبين الكتاب. وقائل: السنة في المرتبة الثانية بعد الكتاب. وانتصر الشاطبي في الموافقات لهذا القول وأطال، ومما استدل به هو وغيره قول الله عز وجل: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
قالوا: فقوله (تبيانًا لكل شيء) واضح في أن الشريعة كلها مبينة في القرآن، ووجدنا الله تعالى قد قال في هذه السورة { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }. فعلمنا أن البيان الذي في قوله: (تبيانًا لكل شيء) غير البيان الموكول إلى الرسول. ففي القرآن سوى البيان المفصل الوافي بيان مجمل وهو ضربان: الأول: الأمر بالصلاة والزكاة والحج والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتحريم الخبائث، وأكل أموال الناس بالباطل، أو غير ذلك. الثاني: الأمر باتباع الرسول وطاعته وأخذ ما أتى والانتهاء عما نهى ونحو ذلك. وفي الصحيحين وغيرهما عن علقمة بن قيس النخعي -وكان أعلم أصحاب عبد الله بن مسعود أو من أعلمهم- قال: «لعن عبد الله الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وفي كتاب الله؟ قالت: والله! لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، قال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }. ظاهر صنيع ابن مسعود أن الاعتماد في كون القرآن مبينًا لكل ما بينته السنة على الضرب الثاني. وتعقيب آية التبيان بالتي تليها كأنه يشير إلى أن الاعتماد على الضربين مجتمعين، ورجحه الشاطبي وزعم أن الاستقراء يوافقه. فعلى هذا لا يكون للخلاف ثمرة. ثم قال قوم: جميع ما بينه الرسول علمه بالوحي. وقال آخرون: منه ماكان باجتهاد أذن الله له فيه وأقره عليه. ذكرهما الشافعي في الرسالة. ثم قال (ص 104): «وأي هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله... » وبالغ بعضهم فقال: كل ما بلغه الرسول فهمه من القرآن. ونسبه بعض المتأخرين إلى الشافعي، فعلى هذا كان القرآن في حق الرسول تبيانًا لكل شيء وتفصيلًا، فأما في حق غيره فعلى ما مر. والله الموفق.
ثم نقل أبو رية كلامًا من موافقات الشاطبي. وكلام الموافقات طويل جدًا وفي ما تركه أبو رية منه ما قد يخالف ظاهر بعض ما نقله، وإنما الكلام العربي الناصع كلام الشافعي في الرسالة.
14ثم قال أبو رية (ص19): (وكان الإمام مالك يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث).
أقول: كان مالك رحمه الله يدين باتباع الأحاديث الصحيحة إلا أنه ربما توقف عن الأخذ بحديث ويقول: ليس عليه العمل عندنا. يرى أن ذلك يدل على أن الحديث منسوخ أو نحو ذلك. والإنصاف أنه لم يتحرر لمالك قاعدة في ذلك فوقعت له أشياء مختلفة. راجع الأم للشافعي (7: 177-249). وقد اشتهر عن مالك قوله: «كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر» يعني النبي ص. وقوله للمنصور إذ عرض عليه أن يحمل الناس على الموطأ: «إن أصحاب رسول الله ص تفرقوا في الأمصار، فعند أهل كل مصر علم».
قال أبو رية (ص19): (وقال [مالك]: «أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه»).
أقول: لا ريب أن المجمع عليه أعلى من غيره مع قيام الحجة بغيره إذا ثبت عند مالك وغيره.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)