









ثم حكى عن صاحب المنار قوله: (والنبي مبين للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن).
أقول: أما الإبطال ونقض الخبر بمعنى تكذيبه فهذا لا يقع من السنة للقرآن ولا من بعض القرآن لبعض، فالقرآن كله حق وصدق { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وأما التخصيص والتقييد ونحوهما والنسخ فليست بإبطال ولا تكذيب، وإنما هي بيان. فالتخصيص مثلًا إن اتصل بالخطاب بالعام كأن نزلت آية فيها عموم ونزلت معها آية من سورة أخرى فيها تخصيص للآية الأولى، أو نزلت الآية فتلاها النبيوبين ما يخصصها فالأمر واضح، إذ البيان متصل بالمبين فكان معه كالكلام الواحد، وإن تأخر المخصص عن وقت الخطاب بالعام ولكنه تبعه وقت العلم بالعام أو عنده فهذا كالأول عند الجمهور، وهذا مرجعه إلى عرف العرب في لغتهم كما بينه الشافعي في الرسالة. [1] أما إذا جاء بعد العمل بالعام ما صورته التخصيص فإنما يكون نسخًا جزئيًا، لكن بعضهم يسمي النسخ تخصيصًا جزئيًا كان أو كليًا نظرًا إلى أن اقتضاء الخطاب بالحكم لشموله لما يستقبل من الأوقات عموم، والنسخ إخراج لبعض تلك الأوقات وهو المستقبل بالنسبة إلى النص الناسخ، وهذا مما يحتج به من يجيز نسخ بعض أحكام الكتاب بالسنة.
15قال صاحب المنار: (والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى، والسنة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية، وما ثبت عن النبي وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة الثالثة).
قضية خطيرة
أقول: قد سبق أن المعروف بين أهل العلم ذكر الكتاب والسنة ثم يقسمون السنة إلى متواتر وآحاد وغير ذلك. قال: (ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى. وقد قرر ذلك الغزالي).
علق أبو رية في الحاشية: (قرر الغزالي ذلك في كتاب القسطاس المستقيم) وعبارة صاحب المنار في مقدمته لمغني ابن قدامة (فمن مقتضى أصولهم كلهم وجوب ترك أسباب كل هذا التفرق والاختلاف [2] حتى قال الغزالي في القسطاس المستقيم بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه وعد المسائل الظنية المختلف فيها كأن لم تكن).
كذا قال. والذي في القسطاس المستقيم خلاف هذا، فإن فيه (ص89) فما بعدها: أنه يعظ العامي الطالب الخلاص من الخلاف في الفروع بأن يقول له: (لا تشغل نفسك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والسرقة والخيانة… حرام، والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف). قال: (فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جَدَليّ وليس بعامي… نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها وقال: ها أنا تشكل عليّ مسائل… فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع فتوضأ من كل ما فيه خلاف، فإن كل من لا يوجبه يستحبه.. فإن قال: هو ذا يثقل عليَّ..، فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل.. فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه). حاصل هذا أن الغزالي كان يعلم أن العامة في زمانه ينتسب كل منهم إلى مذهب ويتعصب له، فإن فرض أن أحدهم سأل عن الخلاف وكيف يتخلص منه فلن يكون إلا أحد رجلين: إما فارغًا متلهيًا وإما ورعا تقيًا، والتقي الورع لابد أن يكون قد شغل فكره المحافظة على الفرائض المتفق عليها وتجنب المحرمات المتفق عليها وعمل بذلك على مذهبه قبل أن يشغله الخلاف. فإذا كان السائل مقصرًا مفرطًا وجاء يسأل عن الخلاف فلن يكون إلا متلهيًا، فيقال له: ابدأ بالعمل بما تعلمه يقينًا ثم سل، فإن أبى فهو جَدَليّ يتعنت في السؤال ولا يهمه العمل، والإعراض عن مثله أولى. فأما من أتى بما عليه بحسب مذهبه وسأل عن الخلاص16من الخلاف فالظاهر أنه يسأل ليعلم ويعمل، قال الغزالي (فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع) وفسر ذلك بما بعده، وذلك يوضح قطعًا أن مراده بما يتفق عليه الجميع أن يلتزم أن يكون وضوؤه الذي يصلي به وضوءًا يتفق العلماء على صحته، يتوضأ من كل ما قال عالم إنه ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله، يأخذ بالأشد الأشد من أقوال المختلفين. وفهم منها صاحب المنار أن لا يتوضأ من شيء قال عالم إنه لا ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله أيضًا بالأخف الأخف من أقوال المختلفين. فلينظر العالم أين هذا من ذاك؟ على أنه إن لم يتوضأ إلا بما اتفقوا على أنه قد ينقض الوضوء قد يكون وضوؤه باطلًا باتفاقهم وذلك أن بعض العلماء يوجب الوضوء بمس الذكر ولا يوجبه من خروج الدم، وبعضهم يعكس، فإذا وقع لعامي هذا وهذا ولم يتوضأ فوضوؤه الأول باطل باتفاق الفريقين، ومع أن مراد الغزالي الاحتياط الأكيد اقتصر على أن فيه (الأمان في طريق الآخرة) ومع أن صاحب المنار قلبه إلى التفريط الشديد لم يقتصر على أن صاحبه يكون ناجيًا في الآخرة بل زاد (مقربًا عند الله تعالى).
وبعد، فلندع الغزالي وصاحب المنار، ولنرجع إلى الحجة. إننا نعلم أن لكثير من علماء الفرق زلات وشواذ مخالفة لدلالات واضحة من القرآن، ولأحاديث تبلغ درجة التواتر المعنوي أو درجة القطع عند من يعرف الرواية والرواة، ومثل هذا غير قليل، فالمقتصر على ما اتفق عليه على ما فهمه صاحب المنار لابد أن يخالف الكتاب والسنة حتمًا في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية، فأما الظنية فحدَّث عن كثرتها ولا حرج.
ومن جهة أخرى، فمن المحال عادة أن يكون الحق دائمًا من المسائل الخلافية مع المرخصين، فالترخص فيها كلها ترك متيقن لكثير من الحق. ولنفرض أن جماعة تتبعوا أقوال علماء المسلمين من جميع الفرق ثم جمعوا كتابًا ضمنوه ما اتفق المسلمون على أنه واجب أو حرام أو باطل [3] وأهملوا ما عدا ذلك، فهل يقال إن من حافظ على ما في الكتاب بدون نظر إلى غيره (كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى) ثم يستغني الناس بذاك الكتاب عن كتاب الله وتفسيراته وعن كتب السنة وشروحها ومتعلقاتها، وعن كتب الفقه كلها، ثم لا يعدم المشذبون مقالًا يشكك في ما ضمه ذاك الكتاب، كالشك في تحقق الإجماع وفي حجيته، ولتغير الأحكام بتغير الزمان. وحينئذ يستريح الذين يدعون أنفسهم بالمصلحين من كل أثر للإسلام.
وقال ابن حزم في الأحكام 3: 114: (وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو أن لا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع، بل قد صح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف، لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف في وجوب طاعتها).
هذا وقد برئت ذمة الغزالي من ذاك القول كما علمت. وأنا أجل السيد محمد رشيد رضا عن أن يقول به17متصورًا حقيقته، وإنما هذا شأن الإنسان كمن يكون على جسر غير محجر فتستولي على ذهنه خشية السقوط من جانب فيتأخر عنه ويتأخر حتى يسقط بغير اختياره من الجانب الآخر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)