وأما تعرضه لبعض الصحابة رجاء أن يطعمه فإنما فعل ذلك مرة أو مرتين لشدة الضرورة، ولم يكن في تعرضه سؤال ولا ذكر لجوعه، وقد نقل الله تعالى في كتابه أن موسى والخضر مرا بأهل قرية فاستطعماهم، وانظر تفسير سورة التكاثر من تفسير ابن كثير.
هذا وقد عد أهل العلم -كما في الحلية – جماعة من المشاهير في أهل الصفة، منهم سعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة، وزيد بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وصهيب، وسلمان، والمقداد وغيرهم.
ثم قال: أبو رية (ص154) (سبب صحبته للنبي : كان أبو هريرة صريحًا صادقًا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي … فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهدايا كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين، وإنما قال: إنه قد صاحبه على ملء بطنه، ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال سمعت أبا هريرة يقول:
105
«إني كنت امرأ مسكينًا أصحب رسول الله على ملء بطني») ورواية مسلم «أخدم رسول الله» وفي رواية: «لشبع بطني».
أقول: حاصل هذا أن الواقع في رواية الإمام أحمد والبخاري (أصحب) وهذا خلاف الواقع، فرواية أحمد وهو الحديث (7273): (حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، قال سمعت أبا هريرة يقول: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ، والله الموعد، إني كنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم... ») ولفظ البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام، باب: الحجة على من قال إن أحكام النبي كانت ظاهرة… إلخ (حدثنا علي حدثنا سفيان عن الزهري أنه سمع من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينًا ألزم رسول الله ... إلخ»). وأخرجه البخاري في مواضع أخرى من وجوه أخرى عن الزهري وفيه (ألزم)، وفي موضع: (إن أبا هريرة كان يلزم) فأبو هريرة لم يتكلم عن إسلامه ولا هجرته ولا صحبته المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، وإنما تكلم عن مزيته وهي لزومه للنبي دونهم، ولم يعلل هذه المزية بزيادة محبته أو زيادة رغبته في الخير أو العلم أو نحو ذلك مما يجعل له فضيلة على إخوانه، وإنما عللها على أسلوبه في التواضع بقوله: «على ملء بطني» فإنه جعل المزية لهم عليه بأنهم أقوياء يسعون في معاشهم وهو مسكين، هذا والله أدب بالغ تخضع له الأعناق. ولكن أبا رية يهتبل تواضع أبي هريرة ويبدل الكلمة، ويحرف المعنى، ويركب العنوان على تحريفه ويحاول صرف الناظر عن التحري والتثبت بذكره رواية مسلم ليوهم أنه قد تحرى الدقة البالغة، ويبني على صنيعه تلك الدعوى الفاجرة، [29] وقد تقدم أن أبا هريرة أسلم في بلاده قبل الهجرة: لماذا؟ ثم ترك وطنه للهجرة مؤجرًا نفسه في طريقه على طعمته وعقبته، لماذا؟ ولما شاهد النبي ص وجاء غلامه الذي كان أبق منه أعتقه، لماذا؟ وتقدم (ص100) شهادة النبي ص بأنه أحرص الصحابة على معرفة حديثه، لماذا؟ قال ابن كثير: وقال سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة: إن النبي ص قال له: «ألا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟
106
قال: فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله…» البداية (8: 111)، لماذا؟ وتقدم (ص 146) قول عمر بن الخطاب: «خفي علي هذا من أمر رسول الله ص، ألهاني عنه الصفق بالأسواق» وقال طلحة بن عبيد الله لما سئل عن حديث أبي هريرة: «والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ص ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله ص طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل وإنما كانت يده مع يد رسول الله ص، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع» البداية (8: 109) [30] وحدث أبو أيوب -وهو من كبار الصحابة- عن أبي هريرة عن النبي ص، فقيل له في ذلك فقال: «إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع» البداية (8: 109) وحدث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشة فشهدت، فقال أبو هريرة: «إنه لم يشغلني عن رسول الله ص غرس الودي ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله ص كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله ص وأعلمنا بحديثه» البداية (8: 109) [31] وقالت عائشة لأبي هريرة: «أكثرت الحديث، قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكني أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي، قالت: لعله» البداية (8: 109). [32]
فأنت ترى اعترافهم له، وترى أن أدبه البالغ المتقدم لم يكن تقية، فإنه لما اقتضى الحال صَدَعَ صَدْعَ الواثق المطمئن.
ثم ذكر أبو رية (ص155) قول أبي هريرة: «كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا». ثم قال أبو رية: (من أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعًا.. أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: «ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله ص أفضل من جعفر بن أبي طالب».
107
أقول: إسناده صحيح إلا أنه غريب، ومن تدبر ترجمة جعفر رضي الله عنه لم يستكثر عليه هذا، وفي فتح الباري (7: 62) في شرح قوله: «وكان أخير الناس للمساكين»، ما لفظه: (وهذا التقييد يحمل عليه المطلق الذي جاء… عن أبي هريرة قال: «ما احتذى النعال... ».
ثم ذكر (ص156-157) حكايات عن الثعالبي والبديع الهمذاني وعبد الحسين بن شرف الدين الرافضي وكلها من خرافات الرافضة وأشباههم، لا تمت إلى العلم بصلة.
ثم قال آخر (ص157): (وأخرج أبو نعيم في الحلية… إلخ).