









درست ويزيد تالفان، فالخبر عن أنس وكعب ساقط، مع أنه لم يتبين من القائل: (قال كعب…)، وبهذا يعلم بعض أفاعيل أبي رية. فأما المتن كما رواه البخاري فمعناه في كتاب الله عز وجل، ففي سورة القيامة: { وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وفي سورة التكوير: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }.
وزيادة غير البخاري "في النار" يشهد لها قول الله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }. وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في صفة الحشر: «ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب131الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم» والحديث في صحيح مسلم، وفيه: «فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار». وفي الصحيحين حديث حدث به أبو هريرة، وأبو سعيد حاضر يستمع له فلم يرد عليه شيئًا، إلا كلمة في آخره وفيه: «يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت…» ويوافق ذلك قوله تعالى في فرعون: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ }.
وإن صحت كلمة (ثوران) أو (ثوران عقيران) كما في خبر أبي يعلى على سقوط سنده فذلك والله أعلم تمثيل، وقد ثبت أن المعاني تمثل يوم القيامة كما يمثل الموت بصورة كبش وغير ذلك، فما بالك بالأجسام؟ ومن الحكمة في تمثيل الشمس والقمر أن عبادهما يعتقدون لهما الحياة، والمشهور بعبادة الناس له من الحيوان العجل فمثلًا من جنسه، وفي الفتح (قال الإسماعيلي: لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما، فإن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذابًا وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة) فأنت ترى شهادة القرآن والأحاديث الصحيحة لحديث أبي هريرة، ولم يثبت عن كعب شيء، ولو ثبت لكان المعقول أنه هو الآخذ لذلك عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة.
وقول الحسن لأبي سلمة (وما ذنبهما) قد عرفت جوابه، وهو يمثل حال أهل العراق في استعجال النظر فيما يشكل عليهم. وجواب أبي سلمة يمثل حال علماء الحجاز في التزام ما يقضي به كمال الإيمان من المسارعة إلى القبول والتسليم ثم يكون النظر بعد، وجوابه وسكوت الحسن يبين مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه وأن ما يحكى مما يخالف ذلك إنما هو من اختلاق أهل البدع، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف من كبار أئمة التابعين بالمدينة مكثر الرواية عن الصحابة كأبي قتادة وأبي الدرداء وعائشة وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة، فهو من أعلم الناس بحال أبي هريرة في نفسه وعند سائر الصحابة رضي الله عنهم.
قال أبو رية (ص174): (وروى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: «إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض عنقه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شانك، فيرد عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا»، وهذا الحديث من قول كعب الأحبار.132ونصه: «إن لله ديكًا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض، فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره».
أقول: عزا هذا إلى نهاية الأرب للنويري، والنويري أديب من أهل القرن السابع، ولا يدرى من أين أخذ هذا. والحديث يروى عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم جابر والعرس بن عميرة وعائشة وثوبان وابن عمر وابن عباس وصفوان بن عسال وأبو هريرة. ذكر ابن الجوزي حديث جابر والعرس في الموضوعات، وتعقبه السيوطي وذكر رواية الآخرين. راجع اللآلئ المصنوعة (1: 32). أما عن أبي هريرة فهو من طريق إسرائيل عن معاوية بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومعاوية لم يخرج له مسلم وأخرج له البخاري حديثًا واحدًا متابعة، وقد قال فيه أبو زرعة: (شيخ واهٍ) ووثقه بعضهم. والمقبري اختلط قبل موته بأربع سنين، ولفظ الخبر مع ذلك مخالف لما نسبه النويري إلى كعب.
قال أبو رية: (وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: «النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة»، وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: «أربعة أنهار وصفها الله عز وجل في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة»).
أقول: أما حديث: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا، وذكر القاضي عياض فيه وجهين ثانيهما أنه كناية أو بشارة عن أن الإيمان يعم بلادها، وتقريبه أنه بحذف مضاف، أي أنهار أهل الجنة وهم المسلمون. فأما خبر كعب فيروى عن عبد الله بن صالح كاتب الليث -وهو متكلم فيه- عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب؛ وأبو الخير لم يدرك كعبًا فإن صح فإنما أخذ كعب حديث أبي هريرة وزاد فيه ما زاد أخذًا من قول الله عز وجل: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } وكأنه يرى أن في الجنة حقيقة أنهار سميت بأسماء أنهار الدنيا. والله أعلم. [42]
ثم قال أبو رية: (وقال ابن كثير في تفسيره إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج… لعل أبا هريرة تلقاه من كعب، فإنه كان كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه).
أقول: تتمة عبارة ابن كثير: (فحدث به أبو هريرة [عن كعب] فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه).133وفي كلام أبي رية: (وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب)، وهذا كذب، إنما قال ابن كثير: (لكن هذا (يعني المعنى بل بعضه) قد روي عن كعب…) وساق بعضه ولم يذكر سنده ولا من أخرجه. وصنيع ابن كثير هنا غير جيد من أوجه لا أطيل بذكرها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)