قال: (وقد طعن رجال الأثر في هذا الحديث، ورووا حديثًا هذا نصه: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وهذا من أعجب العجب؛ لأنه إن كان النبي قد أوتي مثل الكتاب- أي مثل القرآن ليكون تمامًا على القرآن لبيان دينه وشريعته -فلم لم يعن صلوات الله عليه بتدوينه وكتابته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى كما عني بتدوين بالقرآن).
أقول: قد تقدم البيان المنير في مواضع، منها (ص20-21).
قال: (ولم ينه عن كتابته بقوله: «لا تكتبوا عني غير القرآن»).
أقول: تقدم البيان الواضح (ص22-24).
قال: (وهل يصح أن يدع الرسول نصف ما أوحاه الله إليه يعدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا وينساه ذاك؟ وهل يكون الرسول- بعمله هذا- قد بلغ الرسالة على وجهها وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها)؟
أقول: قد تقدم دفع هذا الريب (ص20-21) والقدر الذي يحصل به تبليغ الرسالة وأداء الأمانة إنما تحديده إلى الله عز وجل لا إلى المرتابين في حكمته سبحانه وتعالى وقدرته، وراجع (ص32-33، 52).
قال (ص252): (وأين كان هذا الحديث عندما قال أبو بكر للناس…؟ وعند ما قال عمر…؟ ولم يشفق… عندما فزع إلى أبي بكر).
أقول: راجع (ص36 و 39 و 173-174).
وذكر توقف مالك وأبي حنيفة عن بعض الأحاديث لمعارضتها ما هو أقوى منها عندهما، وقد مر جوابه (ص178).
وذكر (ص253) قصة مناظرة جرت بين الأوزاعي وأبي حنيفة، وهي قصة مكذوبة عارض بها بعض من لا يخاف الله من الحنفية قصة مناظرة رواها الشافعية بسند واه، راجع سنن البيهقي (2/82) وفضائل أبي حنيفة للموفق (1/131)، وكلتا القصتين مروية عن الشاذكوني قال: سمعت سفيان بن عيينة
181
ثم ذكر (ص 254) كلام النحاة في الاستدلال بالأحاديث، وهذا لا يهمنا، مع أن الحق أن ابن مالك توسع، وأنه كما مر (ص60) يمكن بالنظر في روايات الأحاديث وأحوال رواتها أن يعرف في طائفة منها أنها بلفظ النبي أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يحتج به في العربية لكن تحقيق ذلك يصعب على غير أهله، فلذلك أعرض قدماء النحاة عن الاحتجاج بالحديث ووجدوا في المتيسر لهم من القرآن وكلام العرب ما يكفي.
وذكر (ص259) كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث أن يهوديًا سحر النبي .
أقول: النظر في هذا في مقامات:
المقام الأول: ملخص الحديث بأنه في فترة من عمره ناله مرض خفيف ذكرت عائشة أشد أعراضه بقولها: «حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم» وفي رواية: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» وفي أخرى: «يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله» والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات فالأخريان محمولتان عليها… وفي فتح الباري (10: 193) (قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت) أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره بذاك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه). فالذي يتحقق دلالة الخبر عليه أنه كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة وهو عالم أنه لم يجئها ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذى من ذلك، وليس في حمل الحديث على هذا تعسف ولا تكلف.
المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: «حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان (أي ملكان -كما في رواية أخرى- في صورة رجلين)... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله في ناس من أصحابه فجاء.. قلت: يا رسول الله! أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على الناس شرًا، فأمرت بها فدفنت».
ومحصل هذا أن لبيد أراد الحاق ضرر بالنبي فعمل عملًا في مشط ومشاطة.. إلخ، فهل من شأن ذلك أن يؤثر؟
182
قد يقال: لا. ولكن إذا شاء الله تعالى خلق الأثر عقبه. والأقرب من ذلك: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص. وبيانه أن الأفعال التي من شأنها أن تؤثر ضربان: الأول ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء منعه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا، فلما أراد الله تعالى منعه قال: { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }؛ الضرب الثاني ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا فإذا اقتضت الحكمة أن يمكن من التأثير رفع المنع فيؤثر. وقوله تعالى في السحر: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } يدل أنه من الضرب الثاني، وأنا المراد بالإذن الإذن الخاص، والحكمة في مصلحة الناس تقتضي هذا، والواقع في شئونهم يشهد له، وإذ كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.
المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده. وفيه ثلاث قضايا:
القضية الأولى: قال: (فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد).
أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها، فإن أراد الصحة في نفس الأمر فهب أنا لا نقطع بها ولكنا نظنها ظنًا غالبًا، وعلى كل الحالين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظن فلا مفر من الظن وما يترتب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حق في كل دليل لا يفيد إلا الظن.
القضية الثانية: أنه مناف للعصمة في التبليغ قال: (فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.. فإنه إذا خولط.. في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلَّغ شيئًا وهو لم يبلغه، أو أن شيئًا ينزل عليه وهو لم ينزل عليه).
أقول: أما المتحقق من معنى الحديث كما قدمنا في المقام الأول فليس فيه ما يصح أن يعبر عنه بقولك: (خولط في عقله) وإنما ذاك خاطر عابر، لو فرض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا لم يتعده إلى سائر أمور الدنيا فضلًا عن أمور الدين؛ ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ بل سبيله سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع (ص18-19). وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون وأخذ برأسه لظنه أنه قصّر مع أنه لم يقصر. وفيه قول يعقوب لبنيه لما ذكروا له ما جرى لابنه الثاني: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا }
183
يتهمهم بتدبير مكيدة مع أنهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى عن يونس: { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ }.