









أقول: اعتبر البخاري أحاديث مروان فوجدها مستقيمة معروفة لها متابعات وشواهد، ووجد أن أهل عصر مروان كانوا يثقون بصدقه في الحديث، حتى روى عن سهل بن سعد الساعدي وهو صحابي، وروى عنه زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. بقي عدالته في سيرته، فلعل البخاري لم يثبت عنده ما يقطع بأن مروان ارتكب ما يخل بها غير متأول، وعلى كل حال فلا وجه للتشنيع إذ ليست المفسدة في الرواية عمن تذم حاله في الصحيح ما دام المروي ثابتًا من طريق غيره. ألا ترى أنه لو وقع في سند إلى بعض ثقات التابعين أنه سمع يهوديًا يقول لعلي بن أبي طالب سمعت نبيكم يقول كيت وكيت. فقال علي: وأنا سمعته يقول ذلك، لصح إثبات هذا الخبر في الصحيح وإن كان فيه صورة الرواية عن يهودي. فما بالك بمروان، مع أن روايته لا تخلو من تقوية لرواية غيره؛ لأنه على كل حال مسلمٌ قد عرف تحريه الصدق في الحديث.
وذكر (ص318) بعض ما نسب إلى بعض الصحابة ثم قال: (وما لا يحصى مما سكت عنه رعاية لحق النبيما لم يلجئ إليه ملجئ ديني فيجب ذكره، ومن الملجئات ترتب شيء من الدين على مروان والوليد [بن عقبة] وغيرهما فإنهما أعظم خيانة لدين الله …).
أقول: أما الوليد فقد تقدم (ص198) أنه لم يرو شيئًا، وإنما روى عنه مجهول خبرًا لو صح لما دل إلا على صدقه، وأما مروان فمن تتبع أحاديثه الثابتة عنه علم أن البخاري لم يبن شيئًا من الدين على رواية تفرد بها لفظًا ومعنى، وأما غيرهما فراجع (ص197).
وقال (ص320): (وأعجب من هذا أن في رجالهما من لم يثبت تعديله.. ) وذكر حفص بن بغيل [62] ومالك بن الخير الزبادي [63] وكلامًا للذهبي في ترجمتيهما قد رده الحافظ ابن حجر في ترجمة مالك بن الخير من لسان الميزان،205وفي مواضع أخر، وحفص ومالك ليسا ولا أحدهما في الصحيحين ولا أحدهما، ولا فيهما ولا في أحدهما من هو مثل حفص ومالك، فإن وجد من هو قريب من ذلك فنادرًا في المتابعات ونحوها كما بينه ابن حجر، على أنه لو فرض أن البخاري احتج في الصحيح بمن لم يوثقه غيره فاحتجاجه به في الصحيح توثيق وزيادة.
وذكر بعد ذلك في المتن والحاشية كلامًا قد تقدم بيان الحق فيه ولله الحمد.
ثم ذكر (ص324-327) كلامًا للدكتور طه حسين ذكره في معرض الرد على الذين يكذبون غالب ما روي من الأحداث في زمن عثمان ويقولون: (إنه على كل حال لم يرد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير) ويرون في سائر الصحابة أنهم: (يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائمًا ويسرعون إلى الخير دائمًا فلا يمكن أن يتورطوا في الكبائر، ولا أن يحدثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده).
أقول: أما أهل العلم من أهل السنة فلا يقولون في عثمان ولا في غيره من آحاد الصحابة إنه معصوم مطلقًا أو من الكبائر، وإنما يقولون في المبشرين بالجنة: إنه لا يمكن أن يقع منهم ما يحول بينهم وبين ما بُشروا به، وإن الصحابي الذي سمع من النبي ص ولم يعرف بنفاق في عهده ولا ارتد بعد موته لا يكذب عليه ص متعمدًا، وقد تقدم بيان ذلك، ولا يظن به أن يرتكب كبيرة غير متأول ويصر عليها، والعارف المنصف لا يستطيع أن يجحد أن هذه الحال كانت هي الغالبة فيهم، فالواجب الحمل عليها ما دام ذلك محتملًا، وعلماء السنة يجدون الاحتمال قائمًا في كل ما نقل نقلًا ثابتًا، نعم قد يبعد في بعض القضايا ولكنهم يرونه مع بعده أقرب من ضده، وذلك مبسوط في كتبهم.
قال (ص325): (ونحن لا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد).
أقول: وعلماء السنة كما رأيت لا يبلغون هذا الحد، وإن كانوا يعلمون أن حال الصحابة لا تقاس بحال غيرهم.
قال: (ولا نرى في أصحاب النبي ص ما لم يكونوا يرون في أنفسهم).
أقول: المدار على الحجة، فإذا ثبت عندنا أن أحدهم كان يرى في صاحبه أمرًا فليس لنا أن نوافقه إذا لم نعلم له حجة، فكيف إذا ماقامت الحجة على خلافه؟ وأوضح من ذلك أنه ليس لنا أن نتهم غير صاحبه بمثل تلك التهمة ما دام لا حجة لنا على ذلك. فأما الاستدلال على الإمكان فعلماء السنة لم ينفوا الإمكان إلا فيما قام عليه دليل شرعي كالتبشير بالجنة. والدليل الشرعي لا يعارضه ما دونه.
206قال: (وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق، فقد روي أن عمار بن ياسر …).
أقول: أما الترامي بالفسوق بمعنى ارتكاب بعض الكبائر فقد كان بعض ذلك وعلم حكمه مما مر، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه، وما ذكر أنه ما روي عن عمار وابن مسعود لم يثبت، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى فهي فلتة لسان عند ثورة غضب لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يزعمه ظاهرها، فكيف وقد ثبت عن النبي ص تبشير عثمان بالشهادة والجنة؟
ثم قال: (ص326) (الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي ص والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا … وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يروى أو نكذب كل ما يروى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد.. فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها وأن نضيف إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدثون من القواعد الجديدة …).
أقول: الرواة كما وصف، ولكن لا يجهل عاقل أن أحوالهم مختلفة: فمنهم المغفل المتساهل الذي يبني على
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)