وقال: (ص338) (هل كل من وثقه جمهور المتقدمين يكون ثقة)؟ وذكر في هذه الصفحة إلى (ص344) كلمات لصاحب المنار، منها كلام في كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد تقدم النظر في ذلك (ص67-70) وغيرها. ومنها في نقد المتون: (ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يوفه حقه كما تراه فيما يورده الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره).
أقول: من أنعم النظر في الرواة والمرويات ومساعي أئمة الحديث في الجمع والتنقيب والبحث والتخليص والتمحيص عرف كيف يثني عليهم، وأبقى الله لمن بعدهم ما يتم به الابتلاء وتنال به الدرجات العلى ويمتاز هؤلاء عن هؤلاء، وقد أسلفت (ص161، 188) أن الاستشكال لا يستلزم البطلان. بدليل استشكال كثير من الناس كثيرًا من آيات القرآن، وذكرت في (ص172) أن الخلل في ظن البطلان أكثر جدًا من الخلل في الأحاديث التي يصححها الأئمة المتثبتون.
قال: (ومنه ما كان يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع ظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين وغيرهما أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل إذ تكون تحت العرش تنتظر الإذن لها بالطلوع ثانية).
أقول: للحديث روايات: إحداها: رواية وكيع عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر «سألت النبي عن قوله تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } قال: مستقرها تحت العرش» أخرجاه في الصحيحين.
الثانية في الصحيحين أيضًا من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال «دخلت المسجد ورسول الله جالس، فلما غابت الشمس قال: يا أبا ذر! هل تدري أين تذهب هذه؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها. وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها»، قال: (ثم قرأ في قراءة عبد الله: وذلك مستقر لها)، لا أدري من القارئ، ولعله إبراهيم التيمي. وظاهر اختلاف سياق الروايتين أنهما حديثان كل منها مستقل عن الآخر، وليس في المرفوع عن هاتين الروايتين ذكر أنها حين تغرب تكون تحت العرش أو في مستقرها.
وهناك رواية البخاري عن الفريابي عن الثوري عن الأعمش بنحو رواية أبي معاوية إلا أنه قال: («تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن. ». ) ونحوه بزيادة في رواية لمسلم من وجه آخر عن إبراهيم التيمي وقال: («حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة…») فقد يقال: لعل أصل الثابت
214
عن أبي ذر الحديثان الأولان، ولكن إبراهيم التيمي ظن اتفاق معناهما فجمع بينهما في الرواية الثالثة، وقد يقال: بل هو حديث واحد اختصره وكيع على وجه، وأبو معاوية على آخر. فالله أعلم
هذا وجري الشمس هو -والله أعلم- هذا الذي يحسه الناس، فإنه على كل حال هو الذي تطلق عليه العرب (جري الشمس) تدبر، وبحسب ذلك يفهم الحديث. وقال الله تبارك وتعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ } ومهما يكن هذا السجود فإنه يدل على الانقياد التام، والشمس منقادة لأمر ربها أبدًا، وانحطاطها في رأي العين إلى أسفل أجدر بأن يسمى سجودًا، والمأمور يعمل إذا انقاد، وشأنه الانقياد دائمًا، فشأنه عند توقع أن يؤمر بتركه أن يستأذن.
فأما طلوعها آخر الزمان من مغربها فرأيت لبعض العصريين كلامًا سأذكره لينظر فيه: ذكر أنه يحتمل أن يحدث الله عز وجل ما يعوق هذه الحركة المحسوسة الدائرة بين الشمس والأرض فتبطئ تدريجًا كما يشعر به ما جاء في بعض الأخبار أن الأيام تطول آخر الزمان، حتى تصل إلى درجة استقرار، ويكون عروض هذا الاستقرار بعد غروبها عن هذا الوجه من الأرض الذي كان فيه النبي ، ثم تنعكس الحركة فتطلع على أهل هذا الوجه من مغربهم. قال: وذاك الموضوع الذي سوف تستقر فيه معين بالنسبة إلى موضعها من الأرض، فيصح أن يكون هو المستقر. قال: وكان الظاهر والله أعلم أن يقال: (تحت الأرض) أي بالنظر إلى أهل الوجه. لكنه عدل إلى (تحت العرش) لأوجه: منها كراهية إثارة ما يستغربه العرب حينئذ من هيأة الخلق مما يؤدي إلى شك وتساؤل واشتغال الأفكار بما ليس من مهمات الدين التي بعث لها الرسل، وقد ذكر بعضهم نحو هذا في قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }. ومنها أنه إن كان تحت الأرض عند أهل هذا الوجه فهو فوقها عند غيرهم، أما العرش فذاك الموضع والعالم كله تحته، راجع الرسالة العرشية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها أنه لما ذكر أنه موضع سجودها كانت نسبة السجود إلى كونه تحت العرش أولى.
أقول: فلم يلزم مما في الرواية الثالثة من الزيادة غيبوبة الشمس عن الأرض كلها، ولا استقرارها عن الحركة
215
كل يوم بذاك الموضع الذي كتب عليها أن تستقر فيه متى شاء ربها سبحانه.
بحث مع صاحب المنار

قال (ص339): (…بعد العلم القطعي لا مندوحة لنا عن أحد أمرين، إما الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من علامات الوضع عند المحدثين أنفسهم. وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر رواية بالصدق والضبط أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه من مثل كعب الأحبار. ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار، وكان يصدقه، ونرى الكثير من أحاديثه عنعنة لم يصرح بسماعه من النبي ، ومن القطعي أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه لتأخر إسلامه، فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل الصحابي إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابي مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب الأحبار وكان يصدقه. وإما تأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى وأن بعض رواته لم يفهم المراد منه فعبر بما فهمه…).
أقول: عليه في هذا مؤاخذات:
الأولى: أن الأمرين اللذين ذكر أنه لا مندوحة عنهما وهما الطعن والتأويل لا يتعينان، بل بقى ثالث وهو التوقف، ويتعين حيث لا يتهيأ للناقد تأويل مقبول ولا طعن معقول.
الثانية: أنه قدم الطعن على التأويل، والواجب ما دام النظر في حديث ثابت في الصحيحين تقديم التأويل.
الثالثة: قوله: إن مخالفة القطعي من علامات الوضع، محله إذا تحققت المخالفة، ولم يكن هناك احتمال للتأويل البتة.
الرابعة: الطعن المعقول هو الذي يتحرى أضعف نقطة في السند، فما باله عمد إلى أقوى من فيه وهو الصحابي، وهو أبو ذر الغفاري، وقد قال النبي : «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ثبت من حديث أمير المؤمنين علي وعدد من الصحابة.
الخامسة: أن أبا ذر لم ينقل عنه إصغاء إلى كعب، ولا إلى من هو مثل كعب، بل جاء أن كعب قال في مجلس عثمان: «ما أديت زكاته فليس بكنز. فضربه أبو ذر بعصاه. وقال: ما أنت وهذا يا ابن اليهودية؟» أو كما قال. وفي المسند (5: 162) عنه: (لقد تركنا رسول الله وما يتقلب في السماء طائر إلا ذكر لنا منه علمًا) وفي البخاري عنه أنه قال في زمان عثمان: «لا والله أسألهم دينًا ولا أستفتيهم عن دين حين ألقى الله عز وجل» افتراه يستغني عن إخوانه من جلة الصحابة هذا الاستغناء ثم يأخذ عن كعب أو نحوه؟
216
السادسة: أن من سمع الصحابة من كعب لم يسمعوا منه إلا بعض ما يخبر به عن صحف أهل الكتاب، ورواية أبي هريرة عن كعب قليلة وكلها من هذا القبيل. وراجع (ص68، 73)
السابعة: لم يذكر دليلًا على دعواه أن أبا هريرة وابن عباس كانا يصدقان كعبًا، ولا أعلم أنا دليلًا على ذلك، أما إخبارهما عنه ببعض ما يخبر به عن صحف أهل الكتاب فغايته أنهما كانا يميلان إلى عدم كذبه.
الثامنة: أن الذي عرف للصحابة في قول أحدهم: (قال النبي …) أنه إن لم يكن سماعًا له من النبي فهو سماع له من صحابي آخر ثابت الصحبة كما تقدم (ص115)، وجميع ما ثبت عنهم جملة وتفصيلًا مما فيه ذكر إرسالهم إنما هو هذا أو الدليل الصريح الذي استدلوا به على أن أبا هريرة قد يرسل إنما هو حديثه في «من أصبح