









وإن زعم أن أهل عصر النبي ص لم يكونوا يعتقدون هذا وإنما حدث بعدهم فلم يثبت هذا الحكم في عصرهم ولم وجبت الكفارة على الحالف بالورق والحبر ولا خلاف بين المسلمين أنه لا تجب كفارة بالحلف بورق ولا حبر ولا مخلوق ثم متى حدث هذا الاعتقاد وفي أي عصر وما علمنا الحادث إلا قولهم الخبيث المخالف للأمة وللكتاب والسنة ثم كيف يحل أن يوهموا العامة ما يقوى به اعتقادهم الذي يزعمون أنه بدعة من تعظيمهم للمصاحف في الظاهر واحترامها عند الناس وربما قاموا عند مجيئها وقبلوها ووضعوها على رؤوسهم ليوهموا الناس أنهم يعتقدون فيها القرآن وربما امروا من توجبت عليه يمين في الحكم بالحلف بالمصحف إيهاما له أن الذي يحلف به هو القرآن العظيم والكتاب الكريم وهذا عندهم اعتقاد باطل فكيف يحل لهم أن يتظاهروا به ويضمرون خلافه وهذا هو النفاق في عهد رسول الله ص وهو الزندقة اليوم وهو أن يظهر موافقة المسلمين في اعتقادهم ويضمر خلاف ذلك وهذا حال هؤلاء القوم لا محالة فهم زنادقة بغير شك فإنه لا شك في أنهم يظهرون تعظيم المصاحف إيهاما أن فيها القرآن ويعتقدون في الباطن أنه ليس فيها إلا الورق والمداد ويظهرون تعظيم القرآن ويجتمعون لقراءته في المحافل والأعرية ويعتقدون أنه من تأليف جبريل وعبارته ويظهرون أن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون في أذانهم وصلواتهم أشهد ان محمدا رسول الله ويعتقدون أنه انقطعت رسالته ونبوته بموته وأنه لم يبق رسول الله وإنما كان رسول الله في حياته وحقيقة مذهبهم أنه ليس في السماء إله ولا في الأرض قرآن ولا أن محمدا رسول الله وليس في أهل البدع كلهم من يتظاهر بخلاف ما يعتقده غيرهم وغير من أشبههم من الزنادقة.
ومن العجب أن إمامهم الذي أنشأ هذه البدعة رجل لم يعرف بدين ولا ورع ولا شيء من علوم الشريعة البتة ولا ينسب إليه من العلم إلا علم الكلام المذموم وهم يعترفون بأنه أقام على الاعتزال أربعين عاما ثم أظهر الرجوع عنه فلم يظهر منه بعد التوبة سوى هذه البدعة فكيف تصور في عقولهم أن الله لا يوفق لمعرفة الحق إلا عدوه ولا يجعل الهدى إلا مع من ليس له في علم الاسلام نصيب ولا في الدين حظ ثم إن هذه البدعة مع ظهور فسادها وزيادة قبحها قد انتشرت انتشارا كثيرا وظهرت ظهورا عظيما وأظنها آخر البدع وأخبثها وعليها تقوم الساعة وأنها لا تزداد إلا كثرة وانتشارا؛ فإن نبينا ص أخبرنا أن في آخر الزمان تكثر البدع وتموت السنن ويغرب الدين وأن الدنيا لا تزداد إلا إدبارا وأنه يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وأنه يقل أهل الحق إلا أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وأنه يعظم ثوابهم ويكثر أجرهم وشبه النبي ص الدين في آخره بأول ابتدائه في غربته وقلة أهله فقال ص: (بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ ثم جمع بينهم في أن لهم طوبى فقال فطوبى للغرباء) ثم فضل المتأخرين في بعض الأخبار فقال في حديث (يأتي على الناس زمان يكون للقائمين بالكتاب والسنة مثل اجر خمسين شهيدا قالوا يا رسول الله منا أو منهم قال منكم) وهذا فضل عظيم وذلك والله أعلم لعظم نفعهم وصعوبة الأمر عليهم وكثرة أعدائهم وتألبهم عليهم وقلة أنصارهم وقد جاء في خبر (يأتي على الناس زمان يكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر) فهذه الصعوبة هي الموجبة لذلك الأجر ثبتنا الله على الإسلام والسنة وأحيانا عليها وأماتنا عليها وحشرنا عليها.
ومن العجب أن أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم وكثرة أموالهم وجاههم وظهورهم ويستدلون على بطلان السنة بقلة أهلها وغربتهم وضعفهم فيجعلون ما جعله النبي ص دليل الحق وعلامة السنة دليل الباطل فإن النبي ص أخبرنا بقلة أهل الحق في آخر الزمان وغربتهم وظهور أهل البدع وكثرتهم ولكنهم سلكوا سبيل الأمم في استدلالهم على أنبيائهم وأصحاب أنبيائهم بكثرة أموالهم وأولادهم وضعف أهل الحق فقال قوم نوح له {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود 27] وقال قوم صالح فيما أخبر الله عنهم بقوله {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما ارسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف 75-76] وقال قوم نبينا ص {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ 35] وقال الله تعالى {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} [الأنعام 53] {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [الأحقاف 11] ونسوا قول الله تعالى {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد 26] وقوله سبحانه {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف 28] وقوله سبحانه {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} الآيات كلها [الكهف 32-40] وقوله {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [الحجر 88] وقال تعالى {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} [الزخرف 33-35].
وقد كان قيصر ملك الروم وهو كافر أهدى منهم فإنه حين بلغه كتاب النبي ص سأل عنه ابا سفيان فقال (يتبعه ضعفاء الناس أو أقوياؤهم فقال بل ضعفاؤهم) فكان هذا مما استدل به على أنه رسول الله ص فقال (إنهم أتباع الرسل في كل عصر وزمان) وفي الآثار أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه تعالى قال له (يا موسى لا يغرنكما زينة فرعون ولا ما متع به فإنني لو شئت أن أزينكما بزينة يعلم فرعون أن مقدرته تعجز عن أقل ما أوتيتما لفعلت ولكنني أضن بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديما ما خرت لهم إني لأذودهم عن الدنيا كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وإني لأجنبهم سلوتها ونعيمها كما يجنب الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من الآخرة سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطغه الهوى) وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه (دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بمشربة له فرفع رأسه في البيت فلم ير فيه إلا اهبة ثلاثة والنبي ص متكىء على رمال حصير وما بينه وبينه شيء قد اثر في جنبه فقلت يا رسول الله وأنت على هذه الحال وفارس والروم وهم لا يعبدون الله لهم الدنيا فجلس النبي صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه ثم قال افي شك أنت يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) هذا معنى الخبر ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والسنة وجنبنا الكفر والبدعة وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين.
وقد أنشد ابو الحسن علي بن ابي بكر الطرازي فيهم:
دعوني من حديث بني اللتيا ....... ومن قوم بضاعتهم كلام
تفاريق العصا من كل أوب ....... إذا ذكروا وليس لهم إمام
إذا سئلوا عن الجبار مالوا ....... إلى التعطيل وافتضح اللئام
وإن سئلوا عن القرآن قالوا ....... يقول بخلقه بشر كرام
كلام الله ليس له حروف ....... ولا في قوله الف ولام
ولو قيل النبوة كيف صارت ....... لقالوا تلك طار بها الحمام
إذا قبض النبي فكيف تبقى ....... نبوته فديتك والسلام
فهذا دينهم فاعلم يقينا ....... وليس على مهجنهم ملام
لهم زجل وتوحيد جديد ....... أبى الإسلام ذلك والأنام
وزمزمة وهينمة وطيش ....... كأنهم دجاج أو حمام
وإزراء بأهل الحق ظلما ....... وتلقيب وتشنيع مدام
وقول الملحدين وإن تعاووا ....... عواء البين ليس له نظام
فصبرا يا بني الأحرار صبرا ....... فإن الظلم ليس له دوام
وأن الحق أبلج لا يضام ....... وقول الزور آخره غرام
آخره. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)