ولما حييت بلاد فيروز، واستوثق له الملك، وأثخن في اعدائه وقهرم، وفرغ من بناء هذه المدن الثلاث، سار بجنوده نحو خراسان مريدًا حرب إخشنوار ملك الهياطلة؛ فلما بلغ إخشنوار خبره اشتد منه رعبه. فذكر أن رجلًا من أصحاب إخشنوار بذل له نفسه، وقال له: اقطع يديَّ ورجليَّ، وألقنى على طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي - يريد بذلك فيما ذكر الاحتيال لفيروز - ففعل ذلك إخشنوار بذلك الرجل، وألقاه على طريق فيروز، فلما مر به أنكر حاله وسأله عن أمره، فأخبره أن إخشنوار فعل ذلك به لأنه قال له: لا قوام لك بفيروز وجنود الفرس. فرق له فيروز ورحمه، وأمر بحملة معه، فأعلمه على وجه النصح منه له - فيما زعم - أنه يدله وأصحابه على طريق مختصر لم يدخل إلى ملك الهياطلة منه أحد، فاغتر فيروز بذلك منه، وأخذ بالقوم في الطريق الذي ذكره له الأقطع، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة، فكلما شكوا عطشًا أعلمهم أنهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة؛ حتى إذا بلغ بهم موضعًا علم أنهم لا يقدرون فيه على ما تقدم ولا تأخر، بين لهم أمره، فقال أصحاب فيروز لفيروز: قد كنا حذرناك هذا أيها الملك فلم تحذر؛ فأما الآن فلا بد من المضى قدمًا حتى نوافى القوم على الحالات كلها. فمضوا لوجوهم، وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوهم، فلما أشرفوا عليهم على الحال التي هم فيها دعوا إخشنوار إلى الصلح، على أن يخلى سبيلهم؛ حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل فيروز له عهد الله وميثاقة ألا يغزوهم ولا يروم أرضهم، ولا يبعث إليهم جندًا يقاتلونهم، ويجعل بين مملكتها حدًا لا يجوزه. فرضى إخشنوار بذلك، وكتب له به فيروز كتابًا مختومًا، وأشهد له على نفسه شهودًا، ثم خلى سبيله وانصرف.
فلما صار إلى مملكته حمله الأنف والحمية على معاودة إخشنوار، فغزاه بعد أنم نهاه وزراؤه وخاصته عن ذلك؛ لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبى إلا ركوب رأيه، وكان فيمن نهاه عن ذلك رجل كان يخصه ويجتبى رأيه، يقال له مز دبوذ، فلما رأى مز دبوذ لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها، ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد إخشنوار، وقد كان إخشنوار حفر خندقًا بينه وبين بلاد فيروز عظيمًا، فلما انتهى إليه فيروز عقد عليه القناطر، ونصب عليها رايات جعلها أعلامًا له ولأصحابه في انصرافهم، وجاز إلى القوم، فلما التقى بعسكرهم احتج عليه إخشنوار بالكتاب الذي كتبه له، ووعظه بعهده وميثاقه، فأبى فيروز إلا لجاجًا ومحكًا وتواقفًا، فكلم كل واحد منهما صاحبه كلامًا طويلًا، ونشبت بينهما بعد ذلك الحرب، وأصحاب فيروز على فتور من أمرهم؛ للعهد الذي كان بينهم وبين الهياطلة، وأخرج إخشنوار الصحيفة التي كتبها له فيروز، فرفعها على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب. فانهزم فيروز وسها عن موضع الرايات، وسقط في الخندق، فهلك، وأخذ إخشنوار أثقال فيروز ونساءه وأمواله ودواوينه، وأصحاب جند فارس شيء لم يصبهم مثله قط.
وكان بسجستان رجل من أهل كورة أردشير خرة من الأعاجم، ذو علم وبأس وبطش، يقال له: سوخرا، ومعه جماعة من الأساورة، فلما بلغه خبر فيروز ركب من ليلته، فأغذ السير حتى انتهى إلى إخشنوار، فأرسل إليه وآذنه بالحرب، وتوعده بالجائحة والبوار؛ فبعث إليه إخشنوار جيشًا عظيمًا. فلما التقوا ركب إليهم سوخرا فوجدهم مدلين، فيقال: إنه رمى بعض من ورد عليه منهم رمية فوقعت بين عينى فرسه حتى كادت النشابة تغيب في رأسه، فسقط الفرس، وتمكن سوخرا من راكبه، فاستبقاه وقال له: انصرف إلى صاحبك فأخبره بما رأيت، فانصرفوا إلى إخشنوار، وحملوا الفرس معم، فلما رأى أثر الرمية بهت وأرسل إلى سوخرا: أن سل حاجتك، فقال له: حاجتى أن ترد على الديوان، وتطلق الأسرى. ففعل ذلك، فلما صار الديوان في يده، واستنفذ الأسرى، استخرج من الديوان بيوت الأموال التي كانت مع فيروز، فكتب إلى إخشنوار أنه غير منصرف إلا بها. فلما تبين الجد؛ افتدى نفسه وانصرف سوخرا بعد استنقاذ الأسارى وأخذ الديوان وارتجاع الأموال، وجميع ما كان مع فيروز من خزائنه إلى أرض فارس، فلما صار إلى الأعاجم شرفوه وعظموا أمره، وبلغوا به من المنزلة ما لم يكن بعده إلا الملك.
وهو سوخرا بن ويسابور بن زهان بن نرسى بن ويسابور بن قارن ابن كروان بن أبيد بن أوبيد بن تيرويه بن كردنك بن ناور بن طوس ابن نودكا بن منشو بن نودر بن منوشهر.
وذكر بعض أهل العلم بأخبار الفرس من خبر فيروز وخبر إخشنوار نحوًا مما ذكرت؛ غير أنه ذكر أن فيروز لما خرج متوجهًا إلى إخشنوار، استخلف على مدينة طيسبون ومدينة بهرسير - وكانتا محلة الملوك - سوخرا هذا، قال: وكان بقال لمرتبته قارن، وكان يلي معهما سجستان. وأن فيروز لما بلغ منارة كان بهرام جور ابتناها فيما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك؛ لئلا يجوزها الترك إلى خراسان لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدى لها؛ وكان فيروز عاهد إخشنوار ألا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة، أمر فيروز فصفد فيها خمسون فيلا وثلثمائة رجل، فجرت أمامه جرًا، واتبعها؛ أراد بذلك زعم الوفاء لإخشنوار بما عاهده عليه؛ فبلغ إخشنوار ما كان من فيروز في أمر تلك المنارة، فأرسل إليه يقول: انته يا فيروز عما انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه فلم يحفل فيروز بقوله، ولم تكرثه رسالته؛ وجعل يستطعم محاربة إخشنوار، ويدعوه إليها، وجعل إخشنوار يمتنع من محاربته ويستكرهها؛ لأن جل محاربة الترك إنما هو بالخداع والمكر والمكايدة، وأن إخشنوار أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعًا، وغمى بخشب ضعاف، وألقى عليه ترابًا، ثم ارتحل في جنده، فمضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحلة إخشنوار بجنده من عسكره، فلم يشك في أن ذلك منهم انكشاف وهرب، فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب إخشنوار وأصحابه، فأغذوا السير، وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلما بلغوه أقحموا على عماية، فتردى فيه فيروز وعامة جنده، وهلكوا من عند آخرهم.
وإن إخشنوار عطف على عسكر فيروز، فاحتوى على كل شيء فيه، وأسر مو بذان موبذ، وصارت فيروز دخت ابنة فيروز فيمن صار في يده من نساء فيروز، وأمر إخشنوار فاستخرجت جثة فيروز وجثة كل من سقط معه في ذلك الخندق، فوضعت في النواويس، ودعا إخشنوار فيروز دخت إلى أن، يباشرها، فأبت عليه.
وإن خبر هلاك فيروز سقط إلى بلاد فارس، فارتجوا له وفزعوا؛ حتى إذا استقرت حقيقة خبره عند سوخرا تأهب وسار في عظم من كان قبله من الجند إلى بلاد الياطلة. فلما بلغ جرجان بلغ إخشنوار خبر مسيره لمحاربته، فاستعد وأقبل ملتقيًا له، وأرسل إليه يستخبره عن خبره، ويسأله عن اسمه ومرتبته، فأرسل أنه رجل يقال له سوخرا، ولمرتبته قارن، وأنه إنما سار إليه لينتقم منه لفيروز، فأرسل إليه إخشنوار يقول: إن سبيلك في الأمر الذي قدمت له كسبيل فيروز. إذ لم يعقبه في كثرة جنوده من محاربته إياى إلا الهلكة والبوار، فلم ينهنه سوخرا قول إخشنوار، ولم يعبأ به، وأمر جنوده فاستعدوا وتسلحوا، ورحف إلى إخشنوار لشدة إقدامه وحدة قلبه، فطلب موادعته وصلحه، فلم يقبل منه سوخرا صلحًا دون أن يصير في يده كل شيء صار عنده من عسكر فيروز. فسلم إخشنوار إليه ما أصاب من أموال فيروز وخزائنه ومرابطة ونسائه، وفيهن فيروز دخت، ودفع إليه موبذان موبذ وكل أحد كان عنده من عظماء الفرس، فانصرف سوخرا بذلك كله إلى بلاد الفرس.
واختلف في مدة ملك فيروز؛ فقال بعضهم: كانت ستًا وعشرين سنة وقال آخرون: كانت إحدى وعشرين سنة.