أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرًا، فأتى به؛ فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلى خثعم، شهران وناهس بالسمع والطاعة، فأعفاه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن متعب في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك؛ إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة - يعنون الكعبة - ونحن نبعث معك من يدلك. فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. ولما نزل أبرهة المغمس بعث رجلًا من الحبشة، يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم؛ وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به؛ فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم؛ ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم؛ إنما جئت لهدم البيت؛ فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن لم يرد حربي فأتني به.
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة؛ هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم - أو كما قال - فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا من دفع عنه - أو كما قال له - فقال له حناطة: فانطلق إلى الملك، فإنه قد أمرني أن آتيه بك - فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر - وكان له صديقًا - حتى دل عليه، وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًا أو عشيًا! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سائس الفيل لي صديق، فسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس، فجاء به، فقال: يا أنيس، إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، ولقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل، فكلم أنيس أبرهة فقال: أيها الملك؛ هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذن له عليك، فيكلمك بحاجته وأحسن إليه. قال: فأذن له أبرهة - وكان عبد المطلب رجلًا عظيمًا وسيمًا جسيمًا - فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك إلى الملك، فقال له ذلك الترجمان، فقال عد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي. فلما فقال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال: ما كان ليمنع مني، قال: أنت وذاك، اردد إلي إبلي.
وكان - فيما زعم بعض أهل العلم - قد ذهب عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة بعمرو بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة - وهو يومئذ سيد بني كنانة - وخويلد بن واثلة الهذلي - وهو يومئذ سيد هذيل - فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم.
وكان أبرهة قد رد على عبد المطلب الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفًا عليهم معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة الباب باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ** يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ** امنعهم أن يخربوا قراكا
ثم قال أيضًا:
لا هم إن العبد يمن ** ع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوًا محالك
فلئن فعلت فربما ** أولى فأمرٌ ما بدا لك
ولئن فعلت فإنه ** أمرٌ تتم به فعالك
جروا جموع بلادهم ** والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ** جهلًا وما رقبوا جلالك
وقال أيضًا:
وكنت إذا أتى باغٍ بسلمٍ ** نرجى أن تكون لنا كذلك
فولوا لم ينالوا غير خزيٍ ** وكان الحين يهلكهم هنالك
ولم أسمع بأرجس من رجالٍ ** أرادوا العز فانتهكوا حرامك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب، باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه - وكان اسم الفيل محمودًا - وأبرهة مجدمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن؛ فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنبه، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشدًا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشأم ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب ** والأشرم المغلوب غير الغالب!
وقال نفيل أيضًا:
ألاحييت عنا يا ردينا ** نعمناكم مع الإصباح عينا
أتانا قابسٌ منكم عشاءً ** فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولكم تريه ** لدى جنب المحصب ما رأينا
إذًا لعذرتني وحمدت رأيي ** ولم تأسى على ما فات بينا
حمدت الله إذ عاينت طيرًا ** وخفت حجارةً تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيلٍ ** كأن علي للحبشان دينا!
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملةً أنملةً، كلما سقطت منه أنملة اتبعتها منه مدة تمث قيحًا ودمًا حتى قدموا به صنعاء؛ وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه - فيما يزعمون.