ثم قضى سطيح مكانه، فقام عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير ** لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يك ملك بني ساسان أفرطهم ** فإن ذا الدهر أطوارٌ دهارير
فربما ربما أضحو بمنزلة ** تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح مهرانٌ وإخوته ** والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علاتٍ فمن علموا ** أن قد أقل، فمهجورٌ ومحقور
وهم بنو الأم لما أن رأوا نشبًا ** فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرنٍ ** فالخير متبعٌ والشر محذور
فلما قدم عبد المسيح على كسرى، أخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا قد كانت أمور.
فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى ملكي عثمان بن عفان.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: بعث وهرز بأموال وطرف من طرف اليمن إلى كسرى، فلما صارت ببلاد بني تميم، دعا صعصعة ابن ناجيه بن عقال المجاشعي بني تميم إلى الوثوب عليه، فأبوا ذلك فلما صارت في بلاد بني يربوع دعاهم إلى ذلك، فهابوه، فقال: يا بني يربوع، كأني بهذه العير قد مرت ببلاد بكر بن وائل، فوثبوا عليها فاستعانوا بها على حربكم! فلما سمعوا ذلك انتهبوها، وأخذ رجلٌ من بني سليط يقال له النطف خرجًا فيه جوهر، فكان يقال: " أصاب كنز النطف "؛ فصار مثلًا؛ وأخذ صعصعة خصفة فيها سبائك فضة، وصار أصحاب العير إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فكساهم، وزودهم وحملهم، وسار معهم حتى دخل على كسرى. وكان لهوذة جمالٌ وبيان. فأعجب به كسرى وحفظ له ما كان منه، ودعا بعقد من در فعقد على رأسه، وكساه قباء ديباج، مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمى هوذة ذا التاج، وقال كسرى لهوذا أرأيت هؤلاء القوم الذين صنعوا ما صنعوا من قومك هم؟ قال: لا. قال: أصلح هم لك؟ قال: بيننا الموت. قال: قد أدركت بعض حاجتك ونلت ثأرك. وعزم على توجيه الخيل إلى بني تميم، فقيل له: إن بلادهم بلاد سوء، إنما هي مفاوز وصحارى لا يهتدى إلى مسالكها، وماؤهم من الآبار، ولا يؤمن أن يعوروها فيهلك جندك. وأشير إليه أن يكتب إلى عامله بالبحرين وهو آزاذ فروز بن جشنس الذي سمته العرب المكعبر - وإنما سمي المكعبر، لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل وآلى أن لا يدع من بني تميم عينًا تطرف - ففعل؛ ووجه له رسولًا. ودعا بهوذة فجدد له كرامة وصلة وقال: سر مع رسولي هذا فاشفني واشتف، فأقبل هوذه والرسول معه حتى صار إلى المكعبر، وذلك قريب من أيام اللقاط، وكان بنوا تميم يصيرون في ذلك الوقت إلى هجر، للميرة واللقاط، فنادى منادي المكعبر: من كان هاهنا من بني تميم فليحضر فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام يقسم فيهم؛ فحضروا، فأدخلهم المشقر - وهو حصنٌ حياله حصنٌ يقال له الصفا، وبينهما نهر يقال له محلم - وكان الذي بنى المشقر رجلًا من أساورة كسرى يقال له: بسك بن ماهبوذ، كان كسرى وجهه لبنائه، فلما ابتدأه قيل له: إن هؤلاء الفعلة لا يقيمون بهذا الموضع إلا أن تكون معهم نساء، فإن فعلت ذلك بهم تم بناؤك، وأقاموا عليه حتى يفرغوا منه؛ فنقل إليهم الفواجر من ناحية السواد والأهواز، وحملت إليهم روايا الخمر من أرض فارس في البحر، فتناكحوا وتوالدوا، فكانوا جل أهل مدينة هجر، وتكلم القوم بالعربية وكانت دعوتهم إلى عبد القيس، فلما جاء الإسلام قالوا لعبد القيس: قد علمتم عددنا وعدتنا وعظيم غنائنا، فأدخلونا فيكم وزوجونا، فقالوا: لا، ولكن أقيموا على حالكم فأنتم إخواننا وموالينا، فقال رجلٌ من عبد القيس: يا معشر عبد القيس، أطيعوني وألحقوهم، فإنه ليس عن مثل هؤلاء مرغب، فقال رجل من القوم: أما تستحي! أتأمرنا أن ندخل فينا من قد عرفت أوله وأصله! قال: إنكم إن لم تفعلوا ألحقهم غيركم من العرب، قال: إذن لا نستوحش لهم؛ فتفرق القوم في العرب، وبقيت في عبد القيس منهم بقية فانتموا إليهم، فلم يردوهم عن ذلك. فلما أدخل المكعبر بني تميم المشقر قتل رجالهم واستبقى الغلمان وقتل يومئذ قعنب اليراحي - وكان فارس بني يربوع - قتله رجلان من شن كانا ينوبان الملوك، وجعل الغلمان في السفن فعبر بهم إلى فارس، فخصوا منهم بشرًا. قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعد ما فتحت إصطخر عدة منهم، أحدهم خصي والآخر خياط. وشد رجلٌ من بني تميم، يقال له عيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج، فقال:
تذكرت هندًا لات حين تذكر ** تذكرتها ودونها سير أشهر
حجازيةٌ علويةٌ خل أهلها ** مصاب الخريف بين زورٍ ومنور
ألا هل أتى قومي على النأي أنني ** حميت ذماري يوم باب المشقر
ضربت رتاج الباب بالسيف ضربةً ** تفرج منها كل بابٍ مضبر
وكلم هوذة بن علي على المكعبر يومئذ في مائةٍ في أسرى بني تميمٍ، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، ففي ذلك يقول الأعشى:
سائل تميمًا به أيام صفقتهم ** لما أتوه أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في غبراء مظلمةٍ ** لا يستطيعون بعد الضر منتفعا
فقال للملك أطلق منهم مائةً ** رسلًا من القول مخفوضًا وما رفعا
ففك عن مائةٍ منهم إسارهم ** وأصبحوا كلهم من غله خلعا
بهم تقرب يوم الفصح ضاحيةً ** يرجو الإله بما أسدى وما صنعا
فلا يرون بذاكم نعمة سبقت ** إن قال قائلها حقًا بها وسعا
يصف بني تميم بالكفر لنعمته.
قال: فلما حضرت وهرز الوفاة - وذلك في آخر ملك أنوشروان - دعا بقوسه ونشابته، ثم قال: أجلسوني، فأجلسوه، فرمى وقال: انظروا حيث وقعت نشابتي فجعلوا ناؤوسي هناك، فوقعت نشابته من وراء الدير، وهي الكنيسة التي عند نعم، وهي تسمى اليوم مقبرة وهرز؛ فلما بلغ كسرى موت وهرز، بعث إلى اليمن أسوارًا يقال له وين، وكان جبارًا مسرفًا، فعزله هرمز بن كسرى، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم هلك كسرى أنوشروان وكان ملكه ثمانيًا وأربعين سنة.