فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها وخرج من بقى من جرهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتى فذهب بهم، فذلك قول أمية بن أبي الصلت:
وجرهم دمنوا تهامة في الد ** هر فسالت بجمعهم إضم
وولى البيت عمرو بن ربيعة. وقالوا بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث الغبشاني، وهو يقول:
نحن ولينا البيت من بعد جرهمٍ ** لنعمره من كل باغٍ وملحد
وقال:
وادٍ حرامٌ طيره ووحشه ** نحن ولاته فلا نغشه
وقال عامر بن الحارث:
كأن لم يكن بين الحجوزن إلى الصفا ** أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والجدود العواثر
قال:
يأيها الناس سيروا إن قصركم ** أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
كنا أناسًا كما كنتم فغيرنا ** دهرٌ، فأنتكم كما كنا تكونونا
حثوا المطى وأرخوا من أزمتها ** قبل الممات وقضوا ما تقوضنا
يقول: اعملوا لآخرتكم، وافرغوا من حوائجكم في الدنيا؛ فوليت خزاعة البيت؛ غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج للناس من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر - وهو صوفة - فكانت إذا كانت الإجازة قالت العرب: أجيزي صوفة. والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، فكان ذلك إلى بنى زيد بن عدوان؛ فكان آخر من ولى ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن وابش ابن زيد، والثالثة النسئ للشهور الحرام، فكان ذلك في القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن عدي من بنى مالك بن كنانة، ثم بنيه حتى صار ذلك إلى آخرهم أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن حذيفة.
وقام عليه السلام، وقد عادت الحرم إلى أصلها، فأحكمها الله وأبطل النسئ؛ فلما كثرت معد تفرقت، فذلك قول مهلهل:
غنيت دارنا في تهامة في الده ** ر وفيها بنو معدٍ حلولا
وأما قريش، فلم يفارقوا مكة، فلما حفر عبد المطلب زمزم، وجد الغزالين، غزالي الكعبة اللذين كانت جرهم دفنتهما فيه، فاستخرجهما؛ وكان من أمره وأمرهما ما قد ذكرت في موضع ذلك فيما مضى من هذا الكتاب قبل.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وكان الذي وجد عنده الكنز دويكًا مولىً لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة. فقطعت قريش يده من بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وأبو إهاب ابن عزير بن قيس بن سويد التميمي - وكان أخا الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لأمه - وأبو لهب بن عبد المطلب؛ وهم الذين تزعم قريش أنهم وضعوا كنز الكعبة حين أخذوه عند دويك مولى بنى مليح، فلما اتهمتهم قريش، دلوا على دويك، فقطع، ويقال: هم وضعوه عنده.
وذكروا أن قريشًا حين استيقنوا بأن ذلك كان عند الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف، خرجوا به إلى كاهنةٍ من كهان العرب، فسجعت عليه من كهانتها بألا يدخل مكة عشر سنين، بما استحل من حرمه الكعبة، فزعموا أنهم أخرجوه من مكة، فكان فيمات حولها عشر سنين؛ وكان البحر قد رمى بسفينةٍ إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها؛ وكان بمكة رجل قبطيٌ نجارٌ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدي لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانوا يهابونها، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحدٌ إلا احزألت وكشت وفتحت فاها؛ فبينا هي يومًا تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرًا، فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضى ما أردنا. عندنا عاملٌ رقيق، وعندنا خشبٌ، وقد كفانا الله أمر الحية. وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله عامئذٍ ابن خمس وثلاثين سنة.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قامأبو وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب في يده؛ حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بناينها من كسبكم إلا طيبًا، ولا تدخلوا فيها مهر بغيٍ، ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحدٍ من الناس.
قال: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي نجيح المكي، أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، أنه رأى ابنًا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم يطوف بالبيت، فسأل عنه فقيل له: هذا ابنٌ لجعدة ابن هبيرة، فقال عند ذلك عبد الله بن صفوان جد هذا - يعنى أبا وهيب الذي أخذ من الكعبة حجرًا حين اجتمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنانها من كسبكم إلا طيبًا؛ لا تدخلوا فيها مهر بغى، ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحدٍ.
وأبو وهب خال أبي رسول الله ص، وكان شريفًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثننا محمد بن إسحاق، قال: ثم إن قريشًا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبنى مخزوم وتيم وقبائل من قريش، ضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر - وهو الحطيم - لبنى عبد الدار بن قصي ولبنى عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنى عدي بن كعب.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس به تلك الليلة، وقالوا: ننظر؛ فإن إصيب لم نهدم منها شيئًا؛ ورددناها كما كانت؛ وإن لم يصبه شيءٌ فقد رضى الله ما صنعنا هدمنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم والناس معه؛ حتى انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خضرٍ كأنها أسنة آخذ بعضها ببعض.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض من يروى الحديث، أن رجلًا من قرش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها، ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتقت مكة بأسرها، فانتهوا عند ذلك إلى الأساس.
قال: ثم إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، جعلت كل قبيلة تجمع على حدتها، ثم بنوا حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن اختصموا فيه؛ كل قبيلةٍ تريد أن ترفعهخ إلى موضعه دون الأخرى؛ حتى تحاوزوا وتحالفوا وتواعدوا للقتال؛ فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عد بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم، في ذلك الدم في الجفنة؛ فسموا لعقة الدم بذلك؛ فمكثت قريش أربع ليالٍ - أو خمس ليال - على ذلك.
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا؛ فزعم بعض الرواة أن أبا أمية ابن مغيرة كان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش؛ اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه؛ فكان أول من دخل عليهم رسول الله ص، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به؛ هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال: هلم لي ثوبًا، فأتى به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحيةٍ من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه بيده، ثم بنى عليه؛ وكانت قريش تسمى رسول الله ص قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين.
قال أبو جعفر: وكان بناء قريش الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة.
واختلف السلف في سن رسول الله ص حين نبئ كم كانت؟ فقال بعضهم: نبئ رسول الله ص بعد ما بنت قريش الكعبة بخمس سنين؛ وبعدما تمت له من مولده أربعون سنة.