









فلما انتهى إلى رسول الله ص الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله ص سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل - وهو يومئذ سيد الأوس - وسعد بن عبادة بن دليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج - وهو يومئذ سيد الخزرج - ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بالحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير، أخو بني عمرو بن عوف؛ فقال: انطلقوا حتى تنظروا: أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا نعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول الله ص، وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد. فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه؛ وكان رجلًا فيه حد، فقال له سعد ابن معاذ: دع عنك مشاتمتهم؛ فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله ص فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله ص أصحاب الرجيع؛ خبيب بن عدي وأصحابه. فقال رسول الله ص: الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر؛ وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث: يا رسول الله، إن بيوتنا لعورة من العدو - وذلك عن ملأ من رجال قومه - فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا؛ فإنها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله ص، وأقام المشركون عليه بضعًا وعشرين ليلة، قريبًا من شهر؛ ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار.
فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله ص - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة. وعن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري - إلى عيينة بن حصن، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري - وهما قائدا غطفان - فأعطاهما ثلث ثمار المدينة؛ على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله ص وأصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح؛ حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا بالمراوضة في ذلك، ففعلا، فلما أراد رسول الله ص أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة؛ فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه فقالا: يا رسول الله؛ أمرٌ تحبه فنصنعه، أم شيءٌ أمرك الله عز وجل به؛ لا بد لنا من عمل به، أم شيءٌ تصنعه لنا؟ قال: لا، بل لكم؛ والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم لأمرٍ ما ساعة. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله؛ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله عز وجل وعبادة اللأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه؛ وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! ما لنا بهذا من حاجة؛ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله ص: فأنت وذاك! فتناول سعدٌ الصحيفة؛ فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله ص والمسلمون وعدوهم محاصروهم؛ لم يكن بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أخو بني محارب بن فهر؛ قد تلبسوا للقتال، وخرجوا على خيلهم، ومروا على بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب؛ فستعلمون اليوم من الفرسان! ثم اقبلوا نحو الخندق؛ حتى وقفوا عليه، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدةٌ ما كانت العرب تكيدها؛ ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا، فضربوا خيولهم، فاقتحمت منه؛ فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين؛ حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.
وقد كان عمرو بن عبدودٌ قاتل يوم بدر؛ حتى أثبتته الجراحة، قلم يشهد أحدًا، فلما كان يوم الخندق خرج معلمًا ليرى مكانه؛ فلما وقف هو وخيله، قال له على: يا عمرو؛ إنك كنت تعاهد الله ألا يدعوك رجلٌ من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما! قال: أجل! قال له علي بن أبي طالب: فإني أدعوك إلى الله عز وجل وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فإني أدعوك إلى النزال، قال: ولم يا بن أخي؛ فوالله ما أحب أن أقتلك! قال: علي: ولكني والله أحب أن أقتلك. قال: فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره - أو ضرب وجهه - ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي عليه السلام وخرجت خيله منهزمة؛ حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة؛ ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة؛ وكان اقتحم الخندق فتورط فيه، فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب، قتلة أحسن من هذه! فنزل إليه علي فقتله، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله ص أن يبيعهم جسده، فقال رسول الله ص: لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه؛ فشأنكم به. فخلى بينهم وبينه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن أبي ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ثم أحد بني حارثة، أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة؛ وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن.
قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. قالت: فمر سعدٌ وعليه درعٌ مقلصة، قد خرجت منها ذراعه كلها؛ وفي يده حربته يرقد بها ويقول:
لبث قليلًا يشهد الهيجا حمل ** لا بأس بالموت إذا حان الأجل
قالت له أمه: الحق يا بني، فقد والله أخرت.
قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد؛ والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي! قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه.
قالت: فرمى سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل، رماه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة - حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي؛ فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعدٌ: عرق الله وجهك في النار! اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه وأخرجوه. اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتنى حتى تقر عيني من بنى قريظة.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس فو الله إني لأمشي إذ سمعت وئيد الأرض خلفي - تعني حس الأرض - فالتفت فإذا أنا بسعد؛ فجلست إلى الأرض، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس - شهد بدرًا مع رسول الله ص، حدثنا بذلك محمد بن عمرو - يحمل مجنه، وعلى سعد درع من حديد قد خرجت أطرافه منها.
قالت: وكان من أعظم الناس وأطوالهم.
قالت: فأنا أتخوف على أطراف سعد، فمر بي يرتجز، ويقول:
لبث قليلًا يدرك الهيجا حمل ** ما أحسن الموت إذا حان الأجل!
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)