









فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع. فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى؛ وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته؛ فاتركوه فليس تركه بضاركم؛ إنما هو رجل واحد. فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه؛ فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم؛ فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله.
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف ابن عمر، عن سهل وأبي عثمان، عن الضحاك بن خليفة، قال: لما قام الحباب ابن المتذر انتضى سيفه؛ وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؛ أنا أبو شبل في عريسة الأسد، يعزى إلى الأسد. فحامله عمر فضرب يده، فندر السيف، فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد؛ وتتابع القوم على البيعة؛ وبايع سعد؛ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية؛ قام أبو بكر دونها. وقال قائل حين أوطئ سعد: قتلتم سعدًا، فقال عمر: قتله الله! إنه منافق، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه.
حدثنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدثني عمي يعقوب، قال: حدثنا سيف، عن مبشر، عن جابر، قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر: إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة؛ وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة، فقالوا: إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة؛ ولكنا أجبرنا على الجماعة، فلا إقالة فيها؛ لئن نزعت يدًا من طاعة، أو فرقت جماعة، لنضربن الذي فيه عيناك.
ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر - عن أبي ضمرة، عن أبيه، عن عاصم بن عدي، قال: نادى منادي أبي بكر، من بعد الغد من متوفى رسول الله: ليتم بعث أسامة؛ ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف. وقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يأيها الناس، إنما أنا مثلكم؛ وإني لا أدري لعكم ستكلفونني ما كان رسول الله
يطيق؛ إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع؛ فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني؛ وإن رسول الله
قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإن لي شيطانًا يعتريني؛ فإذا أتاني فاجتنبوني؛ لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم؛ وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه؛ فإن استطعتم ألا يمضى هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا؛ ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال؛ فإن قومًا نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم. الجد الجد! والوحا الوحا! والنجاء النجاء! فإن وراءكم طالبا حثيثًا، أجلًا مره سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.
وقام أيضًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه؛ فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها، وخطأ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية؛ لحين فقركم وحاجتكم. اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم. أين كانوا أمس، وأين هم اليوم! أين الجبارون! وأين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب! قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميمًا؛ قد تركت عليهم القالات؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؛ قد بعدوا ونسى ذكرهم، وصاروا كلا شيء. ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفًا بعدهم؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا؛ وإن اغتررنا كنا مثلهم! أين الوضاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم! صاروا ترابًا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم! أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب! قد تركوها لمن خلفهم؛ فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؛ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما فدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة فيما بعد الموت. ألا إلا الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه به سوءًا، إلا بطاعته واتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون، وإن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته؛ أما أنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة.
حدثني عبيد الله بن سعد، قال: أخبرني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: أخبرنا سيف - عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة؛ وقد ارتدت العرب؛ إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة؛ ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهموقلتهم، وكثرة عدوهم. فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك؛ فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين. فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله
، ولو لم يبق في القرى غيري فنفذته!
حدثني عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن عطية، عن أبي أيوب عن علي، وعن الضحاك عن ابن عباس، قالا: ثم اجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية، وخرجوا وخرج أهل المدينة في جند أسامة؛ فحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما؛ عن الحسن بن أبي الحسن البصري، قال: ضرب رسول اللهقبل وفاته بعثًا على أهل المدينة ومن حولهم؛ وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد. فلم يجاوز آخرهم الخندق، حتى قبض رسول الله
، فوقف أسامة بالناس، ثم قال لعمر: ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه؛ يأذن لي أن أرجع بالناس؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلًا أقدم سنًا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر، لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله
! قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلًا أقدم سنًا من أسامة؛ فوثب أبو بكر - وكان جالسًا - فأخذ بلحية عمر، فقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله
وتأمرني أن أنزعه! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا، ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن! فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترتفع له، وترفع عنه سبعمائة خطيئة! حتى إذا انتهى قال: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل! فأذن له، ثم قال: يأيها الناس، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام؛ فإذا أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب؛ فاخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاهون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)