كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم؛ ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان، فقال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة؛ فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين؛ فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب؛ وبدأ بهم وفعل؛ فدخلوا معه جميعًا على وجهين: مكروه عليه فاغتبط؛ وطائع أتاه فازداد؛ فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كما عليه من العداوة والضيق؛ ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء؛ فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم؛ وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم؛ وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم؛ قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى فيكفونناكم. لا تغزون فارس ولا تطعمون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم؛ وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم.
فأسكت القوم. فقام المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدى، فقال أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم؛ وهم أشراف يستحيون من الأشراف؛ وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك؛ فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك؛ إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأنا ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات؛ فنرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأل من طعامنا؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك؛ فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبة، ونعرف وجهه ومولده؛ فأرضه خير أرضنا، وحسبة خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا؛ وقبيلته خير قبائلنا؛ وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي فيها أصدقنا وأحملنا؛ فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصثديق له واتباعه؛ فصار فيما بيننا وبين رب العالمين؛ فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله؛ فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شئ، وكل شئ هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شئ، وإلى يصير كل شئ، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري؛ دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوا مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من نأوأه؛ فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر؛ وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجى نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أأستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم؛ لا شئ لكم عندي، وقال: ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن؛ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنى مرسل إليكم رستم حتى يدفيكم ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو - وافتأت ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملينه، فقال: أكذاك؟ قالوا: نعم فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها؛ ثم انجذب في السير، فأتوا به سعدًا وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله. ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبر الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم.
وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهنًا، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا على وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جوابًا منهم؛ وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمرًا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابًا فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء أتقى بغيره؛ وأنا لا أعلم.
قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه.
وخرج رستم من عنده كئيبًا غضبان - وكان منجمًا كاهناُ - فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزوه سلبكم الله أرضكم وأبناءكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ماكان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا؟ فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظًا. وأغاروا بعدما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكًا، وسار سواد بن مالك التيمي إلى النجاف والفراض إلى جنبها، فاستاق ثلثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكًا، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبى؛ وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذ مرد بن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السليحين؛ حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زمانًا؛ فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام الحم يوم الأباقر ويم الحيتان. وبعث مالك بن ربيعة بم خالد التيمي؛ تيم الرباب، ثم الواثلي ومعه المساور بن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى؛ فأغاروا على الفيوم؛ فأصابا إبلًا لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس. وأخصبوا، وأغار على النهرين عمرو بن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلى - وهي اليوم نهر زياد - حتى أتوا بها العسكر.
وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران. وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشئ. وكان مقام سعد بها شهرين وشيئًا حتى ظفر.
وقال - والإسناد الأول -: وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غض، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم؛ وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب، وعبد الله بن زيد يسانده؛ الرباب بينهما، وجزء بن معاوية وابن النابغة يسانده؛ سعد بينهما، والحصين بن نيار والأعور بن يشامة يسانده على عمرو، والحصين بن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم. وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضى وجميع تلك الفرق.