تاااااااابع للموضوع السابق

• أين وصل مشروعكم الخاص بمتحف الانسان؟
متحف الإنسان يسير نحو مصير آخر غير الذي هيئ له اصلا. فقد قام تصوره وفقا لصيغة جد طموحة لم تعد، في رأيي، مطابقة للحقائق الراهنة. كان موضوعه هو جمع حقبة ما قبل التاريخ والإثنروبولوجيا الفيزيائية والإثنورافيا، وهي التخصصات التي صارت منذ ذلك الوقت تنتج مناهج مختلفة بعضها عن البعض الآخر. وفيما يتصل بالإثنوغرافيا تحديدا فقد كان متحف الإنسان يطمح الى ان يقدم وصفا للكيفية التي كانت ما تزال هذه الشعوب الموغلة في القدم تعيش عليها في العشرينيات والثلاثينيات الماضية والتي كان الإنثنولويون يذهبون لدراستها.
كل هذا لم يعد يستجيب للحاضر الذي تغير كثيرا. فإذا اردنا ان ندرس اليوم قبيلة ميليانيززية لم تكن معروفة في العام 1930 لا بد اولا من ان نضع في الواجهة اكياسا من القهوة، وسيارات تويوتا الى جانب بعض المواعين التقليدية. وستكون هذه الصورة مع ذلك صورة كاذبة. ان الفكرة الرئيسية لمتحف “كي برانلي quai Branly للإنسان المزمع انشاؤه هي جمع كل ما انتجته هذه الحضارات القديمة من اشياء كبيرة وجميلة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذه الاشياء اشياء من الماضي.
وهذا يستجيب استجابة جيدة للعلاقة التي يمكن وينبغي على هذه الحضارات ان ترعاها مع الماضي، والتي يمكننا اليوم ان نرعاها ونصونها ونحرص على بقائها هذه الحضارات.
• هل يمكن لشيء انقطع عن سياقه الطقوسي ان يظل محتفظا بدلالاته ومعانيه الاصلية؟
- ان القناع الذي يتضمن وظيفة طقوسية هو في الوقت نفسه اثر فني رائع. ان المقاربة الجمالية لا تزعجني اطلاقا. فمتحف اللوفر هو اولا متحف للفنون الجميلة. فهو اذن يتميز بروح، وبوظيفة جمالية. وهذا الواقع لم يمنع يوما التاريخ وعلم الاجتماع والفن من ان تتطور، ولا منع القائمين على هذا المتحف من ان يكونوا علماء جيدين. ان اثارة الاهتمام والانفعال عند الجمهور، عبر هذه الاشياء الجميلة لا يخيفني على الاطاق، فالجمالية واحدة من السبل التي تتيح لهذا الجمهور اكتشاف الحضارات التي انتجت هذه الاشياء الجميلة الرائعة. وعلى هذا النحو يصبح البعض مؤرخين وملاحظين وعلماء... يكرسون جهودهم لهذه الحضارات.
• لقد احببت وجمعت أدوات لدرجة انك شبهت الأساطير، موضوع بحثك بـ”الأشياء الجميلة جدا”، التي لا نشبع ولا نمل من مشاهداتها وتأملها. هل ما زلت تحبها؟
ما زلت احب هذه الاشياء، منذ طفولتي في فترة سابقة كانت الاشياء التي كنا نسميها بالاشياء البدائية تباع بأسعار يقدر عليها الجميع! فمع اندريه بروتون، عندما كنا في الولايات المتحدة، كنا نعرف ان هذه الاشياء الجميلة كانت لا تقل جمالا وروعة عن اشياء الحضارات الاخرى المتقدمة. فضلا عن اننا كنا نستطيع اقتناءها بأرخص الاثمان. اما اليوم فقد صارت كل الاشياء غالية الى الحد الذي صرنا فيه لا نملك سوى مشاهدتها عن بعد، ولا نفكر في امتلاكها. فلو كانت الظروف ظلت كما كانت لكنت بالتأكيد ظللت اجمعها كما كان شأني بها من قبل. في العام 1950 كنت اعاني من بعض المشاكل الشخصية وكان علي ان اشتري شقة بأي ثمن. لذلك اضطررت للتخلي عن مقتنياتي من هذه الاشياء الجميلة.
والطريف انني صرت ارى اليوم اشياء تمر تحت عيني كانت ذات يوم من ممتلكاتي الخاصة. ففي متحف اللوفر، مثلا، بعض مما جلبته من ادوات. وسوف يشاهد الناس الكثير من هذه الاشياء في المعرض الذي سوف ينظم في شهر اذار الحاري في اطار السنة البرازيلية في فرنسا بقصر المعارض الكبير.
وسوف تعرض ايضا ادوات كنت قد جمعتها خصيصا لمتحف الانسان اثناء حملاتي الاستكشافية. فقد عانت هذه الاشياء كثيرا اثناء الحرب، فضلا عن ظروف التدفئة الرديئة التي كانت فيها.
فقدت كثيرا حالة زينات الرأس من تصفيفات الشعر المصنوعة من الريش الملصقة بواسطة مادة صمغية أو الشمع. وفي الفترة التي كنت اجمع فيها هذه الأشياء كان البعض يتصور أن الأمر يحتاج لإغراق العلب التي اجمع فيها هذه الأشياء في مطهرات خاصة تزيل ابخرتها هذه المواد الصمغية وهذا الشمع.
• انت رجل مولع بالموسيقى. في “النيء والناضج” وهو اول الاجزاء الاربعة من كتابك “مثولوجيات” نراك تبدأ النص بأغنية من اغاني قبائل “البوروزو” - لحن مخرب اعشاش الطيور- ترى هل درست موسيقى هذه القبائل؟
لا، اطلاقا. انا لست مختصا في الاثنولوجيا الموسيقية. لم ادرس ألحانهم واغانيهم. بعضها كان يؤثر فيّ، او يحرك مشاعري العميقة. فأول انفعالاتي كانت بفعل الاحتفالات التي كانت تجري يوم وصولي إلى قبائل بوروروس. فقد كانت ترافق ألحانهم بعض التسالي التي كانوا يؤدونها ببراعة متناهية وكأنها تجري تحت قيادة رئيس اوركسترا ماهر.
حدث ان زارني قبل بضعة شهور شخصان هنديان من قبيلة بوروروس يرافقهما باحثان من جامعة “كامبو غراندي” في “ماتو غروسو”، وهي اقرب جامعة من اقليمهم، وهي الجامعة نفسها التي يدرس فيها هذا الهنديان. فقد شاءا ان يغنيا ويرقصا لي خصيصا في مكتبي في “كوليج دي فرانس”، وبمبادرة منهما شخصيا. فهذان الزميلان ما يزالان يحتفظان بكامل نضارة وآنية ألحانهما، ويحتفظان بموسيقى كنت قد سمعتها قبل ستين عاما مضت. فلكم كان وقع هذه الألحان عميقا في نفسي!
ولا بد من القول إن الموسيقى هي اكبر سر خفي نواجهه في حياتنا. ولا اخفي ان الموسيقى الشعبية البرازيلية التي كانت في زماني كانت ألحانا جد عذبة.
• ما الذي تقوله عن المستقبل؟
لا تسألني شيئا من هذا القبيل. اننا نعيش الآن في عالم لم اعد أنتمي اليه. العالم الذي عرفته، العالم الذي احببته كان يضم 1.6 بليون نسمة. اما عالم اليوم فقد صار يسع 6 بلايين نسمة. هذا العالم لم يعد عالمي بأي حال. وعالم الغد الذي سيصير سكانه 9 بلايين من الرجال والنساء. لا يمنحني اي إمكانية للتنبؤ.