فقد اتصلت دولتهم نحواً من مائين و ستين سنة و ملكوا مقام إبراهيم عليه السلام و مصلاه و موطن الرسول صلى الله عليه وسلم و مدفنه و موقف الحجيج و مهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم و شيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم و الحب فيهم و اعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق و لقد خرخوا مراراً بعد ذهاب الدولة و دروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة و يذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأيمة و لو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في أمره و لا يشبه في بدعته و لا يكذب نفسه فيما ينتحله.
والعجب من القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين كيف يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة و يرى هذا الرأي الضعيف فأن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين و التعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم و ليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئاً في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم و قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها يا فاطمة إعملي فلن أغني عنك من الله شيئاً و متى عرف امرؤ قضيةً و استيقن أمراً وجب عليه أن يصدع به و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل و القوم كانوا في مجال الظنون الدول بهم و تحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم و انتشارهم في القاصية بدعوتهم و تكرر خروجهم مرة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء و لم يكادوا يعرفون كما قيل:
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت و أين مكاني ما عرفن مكانيا
حتى لقد سمي محمد بن إسماعيل الامام جد عبد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم لما إتفقوا عليه من إخفائه حذراً من المتغلبين عليهم فتوصل شيعة بني العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم و ازدلفوا بهذا الرأي القائل للمستضعفين من خلفائهم و أعجب به أولياؤهم و أمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم و سلطانهم معرة العجز عن المقاومة و المدافعة لمن غلبهم على الشام و مصر و الحجاز من البربر الكتامين شيعة العبيديين و أهل دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب و شهد بذلك عندهم من أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي و أخوة المرتضى و ابن البطحاوي و من العلماء أبو حامد الأسفراييني و القدوري و الصيمري و ابن الأكفاني و الأبيوردي و أبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة و غيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم مشهود و ذلك سنة ستين و أربعمائة في أيام القادر و كانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد و غالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب فنقله الأخباريون كما سمعوه و رووه حسبما وعوه و الحق من ورائه.
و في كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان و ابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد و أوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد و الدولة و السلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع تلتمس في ضوال الحكم تحدى إليه ركائب الروايات و الأخبار و ما نفق فيها نفق عند الكافة فأن تنزهت الدولة عن التعسف و الميل و الأفن و السفسفة و سلكت النهج الأمم و لم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الأبريز الخالص و اللجين المصفى و أن ذهبت مع الأغراض و الحقود و ماجت بسماسرة العرب البغي و الباطل نفق البهرج و الزائف و الناقد البصير قسطاس نظره و ميزان بحثه و ملتمسه.
و مثل هذا و أبعد منه كثيراً ما يتناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى و يعرضون تعريض الحد بالتظنن في الحمل المخلف عن إدريس الأكبر إنه لراشد مولاهم قبحهم الله و أبعدهم ما أجهلهم أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان إصهاره في البربر و إنه منذ دخل المغرب إلى أن توفاه الله عز و جل عريق في البدو و أن حال البادية في مثل ذلك غير خافية لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب و أحوال حرمهم أجمعين بمزأى من جاراتهن و مسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران و تطافن البنيان و عدم الفواصل بين المساكن و قد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاه بمشهد من أوليائهم و شيعتهم و مراقبة من كافتهم و قد أتفق برابرة المغرب الأقصى عامة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه و آتوه طاعتهم عن رضى و إصفاق و بايعوه على الموت الأحمر و خاضوا دونه بحار المنايا في حروبه و غزواته و لو حدثوا أنفسهم بمثل هذه الريبة أو قرعت أسماعهم و لو من عدو كاشح أو منافق مرتاب لتخلف عن ذلك و لو بعضهم كلا و الله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس أقتالهم و من بني الأغلب عمالهم كانوا بأفريقية و ولاتهم.
و ذلك إنه لما فر إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبة أن يقعدوا له بالمراصد و يذكوا عليه العيون فلم يظفروا به و خلص إلى المغرب فتم أمره و ظهرت دعوته و ظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم و عاملهم على الاسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية و إدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب فقتله و دس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس فأظهر اللحاق به و البراءة من بني العباس مواليه فاشتمل عليه إدريس و خلطه بنفسه و ناوله الشماخ في بعض خلواته سماً استهلكه به و وقع خبر مهلكه من بني العباس أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب و اقتلاع جرثومتها و لما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا و لا إذا بالدعوة قد عادت و الشيعة بالمغرب قد ظهرت و دولتهم بإدريس بن إدريس قد تجددت فكان ذلك عليهم أنكى من و وقع الشهاب وكان الفشل و الهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب و اشتمال البربر عليه إلا التحيل في إهلاكه بالسموم فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بأفريقية في سد تلك الفرجة من ناحيتهم و حسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم و اقتلاع تلك العروق قبل أن تشج منهم يخاطبهم بذلك المأمون و من بعده من خلفائهم فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز و لمثلها من الزبون على ملوكهم أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها و امتطائهم صهوة التغلب عليها و تصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها و جبايتها و أهل خططها و سائر نقضها و إبرامها كما قال شاعرهم:
خليفة في قفص بين وصيف و بغا يتوك ماقالا له كما تقول الببغا
فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات و تلوا بالمعاذير فطوراً باحتقار المغرب و أهله و طوراً بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونه بتجاوزه حدود التخوم من عمله و ينفذون سكته في تحفهم و هداياهم و مرتفع جبايتهم تعريضاً باستفحاله و تهويلاً باشتداد شوكته و تعظيماً لما دفعوا إليه من مطالبته و مراسه و تهديداً بقلب الدعوة إن ألجئوا إليه و طوراً يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطعن الكاذب تخفيضاً لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه لبعد المسافة و أفن عقول من خلف بن صبية بني العباس و ممالكهم العجم في القبول من كل قائل و السمع لكل ناعق و لم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء و صر عليها بعض الطاعنين أذنه و اعتدها ذريعة إلى النيل من خلفهم عند المنافسة. و ما لهم قبحهم الله و العدول عن مقاصد الشريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع و المظنون و إدريس ولد على فراش أبيه و الولد للفراش. على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً ففراش إدريس طاهر من الدنس و منزه عن الرجس بحكم القرآن و من اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه و ولج الكفر من بابه و إنما أطنبت في هذا الرد سداً لأبواب الريب و دفعاً في صدر الحاسد لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم بفريته و ينقله بزعمه عن بعض مؤرخين المغرب ممن انحرف عن أهل البيت و ارتاب في الإيمان بسلفهم و إلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه و نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا و أرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة و لتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتهم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإن ادعاء هذا النسب الكريم دعوى شرف عريضة على الأمم و الأجيال من أهل الآفاق فتعرض التهمة فيه.
و لما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فارس و سائر ديار المغرب قد بلغ من الشهرة و الوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق و لا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمة و الجيل من الخلف عن الأمة و الجيل من السلف و بيت جدهم إدريس مختط فاس و مؤسسها من بيوتهم و مسجده لصق محلتهم و دروبهم و سيفه منتضى برأس المأذنة العظمى من قرار بلدهم و غير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود التواتر مرات و كادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها و ما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم بالمغرب و استيقن أنه بمعزل عن ذلك و أنه لا يبلغ مد أحدهم و لا نصيفه أ و أن غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن يسلم لهم حالهم لأن الناس مصدوقون في أنسابهم و بون ما بين العلم و الظن و اليقين و التسليم فإذا علم بذلك من نفسه غص بريقه و ود كثير منهم لو يردونهم عن شرفهم ذلك سوقة و وضعاء حسداً من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد و ارتكاب اللجاج و البهت بمثل هذا الطعن الفائل و القول المكذوب تعللاً بالمساواة في الظنة و المشابهة في تطرق الاحتمال و هيهات لهم ذلك فليس في المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه و وضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن.