حدث العالم بإثبات الأغراض و حدوثها. و امتناع خلو الأجسام عنها، و ما لا يخلو عن الحوادث حادث. و كإثبات التوحيد بدليل التمانع. و إثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد. و غير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم. ثم مرروا تلك الأدلة بتمهيد قواعد و أصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد و الزمن الفرد و الخلاء بين الأجسام و نفي الطبيعة و التركيب العقلي للماهيات. و أن العرض لا يبقى زمنين و إثبات الحال و هي صفة الموجود، لا موجودة و لا معدومة و غير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة. ثم ذهب الشيخ أبو الحسن، و القاضي أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق إلا أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها. و لهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد و القدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. و إذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي، و إثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس، التي هي الجنس و النوع و الفصل والخاصة و العرض العام، و هذا باطل عند المتكلمين. و الكلي و الذاتي عندهم إنما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه. أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس و التعريف المبني عليها. و المقولات العشر، و يبطل العرض الذاتي، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان و تبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. و هي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس، و لا يبقى إلا القياس الصوري، و من التعريفات المساوئ في الصادقية على أفراد المحمود، لا يكون أعلم منها، فيدخل غيرها، و لا أخص فيخرج بعضها، و هو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع و المنع و المتكلمون بالطرد و العكس، و تنهدم أركان المنطق جملة. و إن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر. فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق و عده بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل. و المتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، و لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، و صح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي و وجوب الماهيات الطبيعية و كلياتها في الخارج، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية. و إن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية، كنفي الجوهر الفرد و الخلاء و بقاء الأعراض و غيرها، و يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر و القياس العقلي. و لم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه. و هذا رأي الإمام و الغزالي و تابعهما لهذا العهد، فتأمل ذلك و اعرف مدارك العلماء و مآخذهم فيما يذهبون إليه. و الله الهادي و الموفق للصواب. الفصل الرابع و العشرون: في الطبيعيات و هو علم يبحث في الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة و السكون فينظر في الأجسام السماوية و العنصرية و ما يتولد عنها من حيوان و إنسان و نبات و معدن و ما يتكون في الأرض من العيون و الزلازل و في الجو من السحاب و البخار و الرعد والبرق و الصواعق و غير ذلك. و في مبدأ الحركة للأجسام و هو النفس على تنوعها في الإنسان و الحيوان و النبات. و كتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون و ألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان و الشرح و أوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجا و في كتاب الإشارات و كأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها و يقول برأيه فيها. و أما ابن رشد فلخص كتب أرسطو و شرحها متبعا له غير مخالف. و ألف الناس في ذلك كثيرا لكن هذه هي المشهورة لهذا العهد و المعتبرة في الصناعة. و لأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لا بن سينا و للإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن و كذا الآمدي و شرحه أيضا نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه من أهل المشرق و بحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره و بحوثه و فوق كل ذي علم عليم و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الخامس و العشرون: في علم الطب و من فروع الطبيعيات صناعة الطب و هي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض و يصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة و برء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن و أسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها و ما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية و قواها و على المرض بالعلامات المؤذن بنضجه و قبوله الدواء أولا: في السجية و الفضلات و النبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة و المرض. و إنما الطبيب يحاذيها و يعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة و الفصل و السن و يسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب. و ربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام و جعلوه علما خاصا، كالعين و عللها وأكحالها. كذلك ألحقوا بالفن من مناخ الأعضاء و معناها المنفعة التي لأجلها خلق كل عضو من أعضاء البدن الحيواني. و إن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا أنهم جعلوه من لواحقه و توابعه. و إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام و يقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب و مطاوعة اغتراب. و تآليفه فيها هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده. و كان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاءوا من وراء الغاية مثل الرازي و المجوسي و ابن سينا و من أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر. و هي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران و تناقصه و هي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة و الترف كما نبينه بعد. و للبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحي و عجائزه، و ربما يصح منه البعض إلا أنة ليس على قانون طبيعي و لا على موافقة المزاج. و كان عند العرب من هذا الطب كثير و كان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة و غيره. و الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل و ليس من الوحي في شيء و إنما هو أمر كان عاديا للعرب. و وقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه و سلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع و لم يبعث لتعريف الطب و لا غيره من العاديات. و قد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنة مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك و صدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع. و ليس ذلك في الطب المزاجي و إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل و نحوه و الله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.
الفصل السادس و العشرون: في الفلاحة هذه الصناعة من فروع الطبيعيات و هي النظر في النبات من حيث تنميته و نشؤه بالسقي و العلاج و تعهده بمثل ذلك و كان للمتقدمين بها عناية كثيرة و كان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه و تنميته و من جهة خواصه و روحانيته و مشاكلتها لروحانيات الكواكب و الهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. و ترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير. و لما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب و كان باب السحر مسدودا و النظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه و علاجه و ما يعرض له في ذلك و حذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة. و اختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج و بقي الفن الآخر منه مغفلا، نقل منة مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شاء الله تعالى. و كتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة و لا يعدون فيها الكلام في الغراس و العلاج و حفظ النبات من حوائجه و عوائقه و ما يعرض في ذلك كله و هي موجودة.