العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه. و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر. فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع. و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر. و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني. و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة. فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة. و الله يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا الله و نعم الوكيل و الحمد لله. الفصل الرابع و الأربعون: في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها، و هي كلها في الخيال، و بين العلوم العقلية، و هي في الذهن. و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم، و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك. و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر، و روابط و ختام بين المعاني. و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، و جودة الملكة لناظر فيها، و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها، أن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف، و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة. و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب، و بين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة. و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة. و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة. و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم، ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها، و كانت أمية النزعة و الشعار، فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب، و صيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات، و كثرت الدواوين و التآليف، و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم، و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم، و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا. و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب، و دواوينها المسطرة بخطهم، و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها و ذهاب العناية بها. و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال، و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، و هو ظاهر. و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم. فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، و إن صار له فهم الأقوال من الخط، و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة، و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة، و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه في النادر. و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم، كان باع العرب أطول و ملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم. و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا. و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم. و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، و من غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج. و سائر من ليس من أهل اللسان العربي. و في ذلك آيات للمتوسمين.
الفصل الخامس و الأربعون: في علوم اللسان العربي أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة. و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.