مقامه ذلك، فيتخلص إلى لذته تخلصاً دائماً، ويبرأ عما يجده من الألم عند الأعراض عن مقامه ذلك إلى ضرورة البدن. وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه وذلك خمسون عاماً. وحينئذ اتفقت له صحبة أسال وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. ذكروا: إن جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه، انتقلت إليه ملة من الملل الصحيحة الماخوذه على بعض الأنبياء المتقدمين، صلوات الله عليهم. وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التي خيالات تلك الأشياء، وتثبت رسومها في النفوس، حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور؛ فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة وتقوى وتظهر، حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها. وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع أعمالها، واصطحبا على ذلك. وكانا يتفقهان في بعض الأوقات فيما ورد من ألفاظ تلك الشريعة في صفة الله عز وجل وملائكته، وصفات الميعاد والثواب والعقاب. فأما أسال فكان أشد غوصاً على الباطن، وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية واطمع في التأويل. واما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر، وأشد بعداً عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل؛ وكلاهما مجد في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى. وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل عن العزلة والانفراد، وتدل على إن الفوز والنجاة فيهما؛ واقوال أخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة. فتعلق أسال بطلب العزلة، ورجح القول فيها لما كان في طباعه من دوام الفكرة، وملازمة العبرة، والغوص على المعاني، وأكثر ما كان يتأتى له أمله من ذلك بالانفراد. وتعلق سلامان بملازمة الجماعة، ورجح القول فيها لما كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة ويعيد من همزات الشياطين. وكان اختلافهما في هذا الرأي سبب افتراقهما. وكان أسال قد سمع عن الجزيرة التي ذكر أن حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء المعتدل، وان الانفراد بها يتأتى لملتمسه، فأجمع إن يرتحل إليها ويعتزل الناس بها بقية عمره. فجمع ما كان له من المال، واشترى ببعضه مركباً تحمله إلى تلك الجزيرة، وفرق باقيه على المساكين، وودع صاحبه سلامان وركب متن البحر؛ فحمله الملاحون إلى تلك الجزيرة؛ ووضعوه بساحلها؛ وانفصلوا عنها. فبقي أسال بتلك الجزيرة يعبد الله عز وجل؛ ويعظمه ويقدسه؛ ويفكر في اسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فلا ينقطع خاطره؛ ولا تتكدر فكرته. واذا احتاج إلى غذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد بها جوعته. وأقام على تلك الحال مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أنس بمناجاة ربه. وكان كل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تحفة وتيسره عليه في مطلبه وغذائه ما يثبت يقينه ويقر عينه. وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة؛ فكان لا يبرح عن مغارته إلا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء، فلذلك لم يعثر عليه أسال لأول وهلة، بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة ويسبح في أرجائها، فلا يرى أنسياً ولا يشاهد أثراً فيزيد بذلك أنسه وتنبسط نفسه لما كان قد عزم عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد. إلى إن اتفق في بعض تلك الأوقات إن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه وأسال قد ألم بتلك الجهة، فوقع بصر كل منهما على الآخر. فإما أسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين، وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها. فخشي إن هو تعرض له وتعرف به إن يكون سبباً في فساد حاله وعائقاً بينه وبين أمله. واما حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف، فظن إنها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه ملياً. وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن الحقائق. فلما رآه يشتد في الهرب. خنس عنه وتوارى له، حتى ظن أسال انه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة. فشرع أسال في الصلاة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع والتواجد، حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلاً قليلاً، وأسال لا يشعر به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد خضوعه وبكائه. فسمع صوتاً حسناً وحروف منظمة، لم يعهد مثلها من شيء من أصناف الحيوان. ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته، وتبين له أن المدرعة التي عليه ليست جلداً طبيعياً، وانما هي لباس متخذ مثل لباسه هو، ولما رأى حسن خشوعه وتضرعه وبكائه لم يشك في انه من الذوات العارفة بالحق؛ فتشوق إليه واراد إن يرى ما عنده، وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه؛ فزاد في الدنو منه حتى أحس به أسال؛ فاشتد في العدو، واشتد حي بن يقظان في أثره حتى التحق به - لما كان أعطاه الله من القوة والبسطة في العلم والجسم - فالتزمه وقبض عليه؛ ولم يمكنه من البراح. فلما نظر إليه أسال وهو مكتس بجلود الحيوان ذوات الاوبار؛ وشعره قد طال حتى جلل كثيراً منه، ورأى ما عنده من سرعة العدو وقوة البطش، فرق منه فرقاً شديداً، وجعل يستعطفه ويرغب إليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان ولا يدري ما هو، غير أنه يميز فيه شمائل الجزع. فكان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من الحيوانات، ويجر يده على رأسه، ويمسح أعطافه. ويتملق إليه، ويظهر البشر والفرح به. حتى سكن جأش أسال وعلم أنه لا يريد به سوءاً. كان أسال قديماً لمحبته في علم التأويل. قد تعلم أكثر الألسن، ومهر فيها. فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج أفهامه فلا يستطيع، وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع ولا يدري ما هو. غير أنه يظهر له البشر والقبول. فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه. وكان عند أسال من زاد كان قد اصطحبه من الجزيرة المعمورة، فقربه إلى حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه أسال وأشار إليه ليأكل ففكر حي بن يقظان فيما كان ألزم نفسه من الشروط لتناول الغذاء، ولم يدر اصل ذلك الشيء الذي قدم له ما هو، وهل يجوز له تناوله أم لا! فامتنع عن الآكل. ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان اولع به حي بن يقظان فخشي إن دام على امتناعه إن يوحشه، فاقدم على ذلك الزاد وأكل منه. فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط غذاء، وندم على فعله، وأراد الانفصال عن أسال والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم، فلما تتأت له المشاهدة بسرعة. فرأى أن يقيم مع أسال في عالم الحس حتى يقف على حقيقة شأنه، ولا يبقي في نفسه هو نزوع إليه، وينصرف بعد ذلك إلى مقامه دون إن يشغله شاغل. فالتزم صحبة أسال ولما رأى أسال أيضاً انه لا يتكلم، آمن من غلوائه على دينه، ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين، فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند الله. فشرع أسال في تعليمه الكلام أولاً بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه ويحمله على النطق، فينطق بها مقترناً بالاشارة، حتى علمه الأسماء كلها، ودرجه قليلاً قليلاً حتى تكلم في أقرب مدة. فجعل أسال يسأله عن شأنه ومن أين صار إلى تلك الجزيرة، فأعلمه حي بن يقظان انه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أباً ولا أماً أكثر من الظبية التي ربته، ووصف له شأنه كله وكيف ترقى بالمعرفة، حتى انتهى إلى درجة الوصول. فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس العارفة بذات الحق عز وجل، ووصفه ذلك الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى، ووصف له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وألام المحجوبين، لم يشك أسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له، ولا مغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولى الألباب. وعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير، وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالتزم خدمته والاقتداء به بإشارته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي قد تعلمها في ملته. وجعل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم، وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة اليهم.