









فدخل بغداد يوم الخميس لثمان خلون من رجب وشهر هؤلاء الأسارى على الجمال بالبرانس الطوال والثياب الملونة لأربع عشرة ليلة خلت منه وأودعوا الحبوس والمطابق وتفرق أولئك الذين نجوا منهم في الأطراف البعيدة وطفئت جمرتهم وزالت عن أعمال بغداد والسواد مضرّتهم.
القبض على نقيب الطالبيين
وفيها قبض على أبي أحمد الموسوي نقيب الطالبيين وعلى أخيه أبي عبد الله وعلى قاضى القضاة أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، وأنفدوا إلى فارس وقلّد قضاء القضاة أبو سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير مقيم بفارس واستخلف له ببغداد أربع خلفاء على أرباع بغداد وهم: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن صبر وكان خليفته على الجانب الشرقي من حد المخرّم وإلى الطرف الأعلى منه، وأبو الحسين عبد العزيز بن أحمد الخرزي وصيّر خليفته على ما بقي من الجانب الشرقي من حدّ المخرّم وإلى الطرف الأسفل، وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الأكفانى خليفته على مدينة أبي جعفر المنصور وما يتصل بها من الجانب الغربي إلى طرفه الأعلى، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد العماني خليفته على المدينة التي تعرف بالشرقية وهي على غربي دجلة الى طرفه الأسفل، وقسمت نواحي السواد على هذه الحصص بينهم.
وفي هذه السنة ورد الخبر بقتل أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بالرملة
ذكر شرح الحال في قتله وحرقه
كنا قد ذكرنا خبره في توجهه من الرحبة إلى دمشق وكان بلغه أنّ عضد الدولة كاتب سعد الدولة بن سيف الدولة وجميع البوادي هناك من بنى كلاب وغيرهم بمعارضته في مسيره وأخذه وحمله إلى حضرته، فاستوحش وعدل عن نهج الطريق وأوغل في البرية فنالته مشقة عظيمة ووصل إلى دمشق من ورائها فوجد فيها من أهلها رجلا يقال له: قسّام، قد تحصن بها وغلب عليها وخالف صاحب المغرب فلم يتمكن من دخولها فنزل في ظاهرها وأنفذ كاتبه عليّ بن عمرو الى مصر يستدعى من صاحب المغرب النجدة.
ووقعت بين أصحابه وبين أصحاب قسام هذا ثورة، فرحل إلى موضع يقال له نوى وفارقه من ههنا ابن عمه أبو الغطريف مستأمنا إلى عضد الدولة وعيّد عيد الفطر بنوى.
وورد عليه كتاب من كاتبه من مصر بأنّ صاحب المغرب تقبله ووعده بكل ما أحبّه وأنّه التمس منه أن يسير إليه زائرا. فامتنع أبو تغلب من ذلك وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما. فرحل عن نوى إلى منزل يقال له:
كفر عاقب على بحيرة طبرية وفارقه من هناك أخوه أبو طاهر ابن ناصر الدولة على اتفاق واستئذان مستأمنا إلى عضد الدولة.
وكان صاحب المغرب أنفذ وجها من وجوه غلمانه يقال له: الفضل، إلى دمشق ليحتال على قسام ويفتتح البلاد. فصار الى طبرية وقرب من أبي تغلب وتراسلا في الاجتماع فسار الفضل إليه وتلقّاه أبو تغلب وتفاوضا في الموكب ووعده عن صاحب المغرب بكلّ ما أحبّ وبذل له أبو تغلب المسير معه إلى دمشق لفتحها.
فكره ذلك للنفرة التي كانت جرت بينه وبين قسام لئلا يوحشه وكان يسلك في أمره اللطف والحيلة لا طريق الخوف والمقارعة فافترقا وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
ثم رحل الفضل الى دمشق فلم يتمّ له ما قدّره فيها.
وكان بالرملة دغفل بن المفرّج بن الجرّاح الطائي وهو رجل بدوي استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة صاحب المغرب من غير أن يتصرف على أحكامها واستفحل أمره وكثرت البوادي معه، فسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليواقعها ويخرجها عن تلك البلاد، فلجأت إلى أبي تغلب وسألته نصرتها ومتّت إليه بالرحم النزارية وكتب ابن الجراح إليه يسأله ألّا يفعل ذلك ومتّ إليه بالحلف الذي وقع قديما في الجاهلية بين ربيعة واليمن، فتوسط بين الجهتين على التكافّ إلى أن يرجع الى صاحب المغرب ويمتثل ما يرد منه في الأمر الذي شجر بينهما.
ورحل فنزل في جوار عقيل على أنّه مانع لها المسير والإبتداء بالشرّ فأوحش ذلك ابن الجرّاح والفضل صاحب صاحب المغرب وخافاه وظنا أنّ اجتماعه مع بنى عقيل لتدبير على أعمالهم، فسار الفضل عن باب دمشق على طريق الساحل إلى الرملة.
وضجر أبو تغلب من طول مقامه، واتصل كتب كاتبه إليه بالتسويف والتعليل فسار الى الرملة مع احياء عقيل وذلك في المحرم سنة 369 فهرب ابن الجراح والفضل من بين يديه حتى بعد، وكتب الفضل يستنجد ويجمع الى نفسه جيوش السواحل وولاته.
وجمع أيضا ابن الجراح الرجال واحتشد فتوافت إليهما طوائف كثيرة واستأمن الى أبي تغلب ممن كان معهما اسختكين التركي المغربي وغيره من الأتراك وقطعة من الرجال الاخشيدية والمغاربة وعطف إليه الفضل وابن الجراح فيمن جمعا فوقعت الوقعة على باب الرملة يوم الاثنين لليلة خلت من صفر سنة تسع وستّين وثلاثمائة.
فلما عاينت عقيل كثرة الناس انهزمت، فضعف أمر أبي تغلب وفارقه اسختكين المغربي طالبا العراق ومستأمنا الى عضد الدولة، وعاد باقى المستأمنة من المضريّين الى الفضل والى ابن الجرّاح ولم يبق مع أبي تغلب إلّا نحو سبعمائة رجل وهم غلمانه الحمدانية فانهزم وانهزموا ولحقهم الطلب فثنوا وجوههم يحامون عن نفوسهم بالمكافحة والمجالدة. فضرب بعض الصعاليك أبا تغلب على رأسه، وعرقب آخر، فرسه، فسقط إلى الأرض وبادر إليه ابن عم لابن الجراح يقال له: مشيّع الطائي، وقتل بعض غلمانه وأسر أكثر أصحابه وحصل أبو تغلب في عشيّته تلك في يد ابن الجراح فبكّر مرتحلا بأحيائه وعسكره وسيّره بين يديه على ناقة وقد شدّ رجليه بسلسلة إلى بطنها واعتقد أن يأتى عليه ولا يبقى.
فبلغ ذلك الفضل فبكر ليأخذه من يد أبي الجراح فألفاه قد سار فاتبعه.
فلمّا قرب خلف ابن الجراح أن يتسلمه منه ويصير به الى مصر فيجري معه مجرى ألفتكين في اصطناع صاحب المغرب له واستصحابه إياه وقد وتره بالحرب والأسر وأناخ الناقة وضربه بيده ضربتين بالسيف فسقط قتيلا وأخذ رأسه وقطع بعض الشيوخ من العرب يديه ورجليه، لأنّه كان ضرب يد ابن له عند ممانعته عن نفسه فأطنّها. ولحق الفضل وقد قضى الأمر فأخذ رأسه وأنفذه إلى مصر ثم صلب جثته ثم أحرقت.
وقد كان خلّف أخته جميلة وزوجته وهي بنت سيف الدولة في أحياء بنى عقيل. فلما قتل حملوهما مع سائر عياله الى حلب فأخذ سعد الدولة أخته اليه وأنفذ جميلة الى الرقة وحدرها منها الى عانة وعدل بها من عانة الى الموصل وسلّمت الى أبي الوفاء فكانت في يده الى أن انحدر الى بغداد فحدرها معه وحصلت معتقلة في الدار في بعض حجرها مع جواري عضد الدولة ونسائه.
ذكر تلافي بغداد بالعمارة بعد الخراب بأمر عضد الدولة
وفي هذه السنة أمر عضد الدولة بعمارة منازل بغداد وأسواقها وكانت مختلّة قد أحرق بعضها وخرب البعض فهي تلّ.
المساجد الجامعة
وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت أيضا في نهاية الخراب فأنفق عليها مالا عظيما وهدم ما كان مستهدما من بنيانها وأعادها على إحكام وشيّدها وأعلاها وفرشها وكساها وتقدم بإدرار أرزاق قوّامها ومؤذنيها والائمة والقرّاء فيها وإقامة الجرايات لمن يأوى إليها من الغرباء والضعفاء، وكان ذلك كله مهملا لا يفكّر فيه.
مساجد الأرباض والعقارات
ثم أمر بعمارة ما خرب من مساجد الارباض المختلفة وأعاد وقوفها وعوّل في هذه المصالح على عمّال ثقات أشرف عليها نقيب العلويّين.
ثم الزم أرباب العقارات التي احترقت ودثّرت في أيام الفتنة أن يعيدوها إلى أفضل أحوالها في العمارة وفي الحسن والزينة، فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت ماله ليرتجع منه عند الميسرة ومن لم يوثق منه بذلك أو كان غائبا أقيم عنه وكيل وأطلق له ما يحتاج إليه فعمرت بغداد وعادت كأحسن ما كانت.
الدور والقصور
ثم وقع التتبع على الدور والمساكن التي على جانبي دجلة فبنيت مسنّياتها وجددت رواشنها بعد أن كان الخراب شاملا لها وتقدم إلى من سمّيت له دار على الشط من كبار الأولياء والحاشية أن يجتهد في عمارتها وتحسينها.
سبب خراب الدور والقصور وكان السبب في خراب هذه الدور والقصور على الشطّ أنّ بختيار كان نقض دار أبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي التي كانت على الصراة ودجلة حين قبضها عنه ولم يكن لها نظير ببغداد في الاتساع والحسن، وكان اتخذ فيها بستانا نحو سبعة أجربة مملوأ بالنخل والأشجار والرياحين والأنوار وطرائف الغروس الغريبة وأنشأ فيها المجالس البهيّة والمساكن الفسيحة، فارتفع له من أثمان النقض جملة استكثرها واستطاب بعد ذلك بيع الأنقاض فهدم المنازل الجليلة التي لا يمكن أو يصعب إعادتها.
رفع سنة الإخراب وبيع الأنقاض
فأمر عضد الدولة برفع سنّة الإخراب وبيع الأنقاض وإعادة عمارة بستان عرصة دار العباس بن الحسين وكذلك عمارة البستان بالزاهر المتوسط الشرقي من بغداد. ففعل ذلك فامتلأت هذه الخرابات بالزهر والخضرة والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
الأنهار والقناطر
وكان ببغداد أنهار كثيرة مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزّازين ونهر الزجاج ونهر القلايين ونهر طابق وميزابها الى دجلة والصراة ونهر عيسى ونهر بناحية الحربية يأخذ من الدجيل وكان منها مرافق للناس لسقى البساتين ولشرب الشفة في الأطراف البعيدة من دجلة. فاندفنت مجاريها وعفت رسومها ونشأ قرن بعد قرن من الناس لا يعرفونها واضطرّ الضعفاء الى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة أو يتكلفوا حمل الماء من دجلة في المسافة الطويلة، فأمر بحفر عمدانها ورواضعها وقد كانت على عمدانها الكبار المعروفة بنهر عيسى والصراة والخندق قناطر قد تهدمت وأهمل أمرها وقلّ الفكر فيها، فربما انقطعت بها السبل أصلا وربما عمرتها الرعية عمارة ضعيفة على حسب أحوالهم وعلى حسب الاقتصاد والتزجية فلم تكن تخلو من أن تجتاز عليها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فيسقطون فبنيت كلها جديدة وثيقة وعملت عملا محكما.
جسر بغداد
وكذلك جرى أمر الجسر ببغداد فإنّه كان لا يجتاز عليه إلّا المخاطر بنفسه لا سيّما الراكب، لشدة ضيقه وضعفه وتزاحم الناس عليه. فاختيرت له السفن الكبار المتقنة وعرّض حتى صار كالشوارع الفسيحة وحصّن بالدرابزينات ووكّل به الحفظة والحرّاس.
مصالح السواد
فأمّا مصالح السواد فإنّها قلّدت الأمناء ووقع الإبتداء بذلك في السنة المتقدمة لهذه التي نحن في ذكرها، فغلبت الزيادات وجمعت العدد من القصب والتراب وأصناف الآلات وأعيد كثير من قناطر أفواه الأنهار والمغايض والآجرّ والنورة والجصّ وطولب الرعية بالعمارة مطالبة رفيقة واحتيط عليهم بالتتبع والإشراف وبلغ في الحماية إلى أقصى حد ونهاية.
تأخير الخراج إلى النيروز
وأخّر افتتاح الخراج الى النيروز المعتضدي وكان يؤخذ سلفا قبل إدراك الغلّات، وأمضيت للرعية الرسوم الصحيحة وحذفت عنها الزيادات والتأويلات، ووقف على مظالم المتظلمين وحملوا على التعديل ورفعت الجباية عن قوافل الحجيج، وزال ما كان يجرى عليهم من القبائح وضروب العسف وأقيمت لهم السواني في مناهل الطريق وأحفرت الآبار واستفيضت الينابع.
حمل الكسوة إلى الكعبة
وحملت إلى الكعبة الكسوة المستعملة الكثيرة وأطلقت الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالمدينة وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرّت لهم الأقوات من البرّ والبحر وكذلك فعل بالمشهدين بالغري والحائر - على ساكنيهما السلام - وبمقابر قريش فاشترك الناس في الزيارات والمصليات بعد عداوات كانت تنشأ بينهم الى أن يتلاعنوا وتواثقوا وخرست الألسن التي كانت تجرّ الجرائر وتشبّ النوائر بما أظلها من السلطان القامع والتدبير الجامع.
رسوم للفقراء وأصناف العلماء وإفراد حجرة في داره لمفاوضات الحكماء آمنين من السفهاء
وبسطت رسوم للفقراء والفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين والنسابين والشعراء والنحويين والعروضيين والأطباء والمنجمين والحسّاب والمهندسين. وأفرد في دار عضد الدولة لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه وهو الحجرة التي يختص بها الحجّاب، فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم وكرامات تتصل بهم.
فعاشت هذه العلوم وكانت مواتا وتراجع أهلها وكانوا أشتاتا ورغب الأحداث في التأدب والشيوخ في التأديب، وانبعثت القرائح ونفقت أسواق الفضل وكانت كاسدة، وأخرج من بيت المال أموال عظيمة صرفت في هذه الأبواب وفي غيرها من الصدقات على ذوي الحاجات من أهل الملّة، وتجاوزهم الى أهل الذمّة. وأذن للوزير نصر بن هارون في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم.
الغرض من شرح هذه البركات
وكنّا بعرض الزيادة من هذه البركات إلى أن أتى أمر الله الذي لا يدفع.
وإنّما شرحناها لينظر فيها من يأتى بعدنا ويقرأها الملوك أو تقرأ بين أيديهم فيعملون بمثل ذلك ويسيرون بها لينتشر ذكرهم بالجميل ويطلع الله عز وجل على نيّاتهم فيمكّن لهم ويحسن معونتهم.
فلو لا خلال كانت في عضد الدولة يسيرة لا أستحسن ذكرها مع كثرة فضائله، لبلغ من الدنيا مناه، ورجوت له من الآخرة رضاه، والله ينفعه بما قدّمه من العمل الصالح ويغفر له ما وراء ذلك.
شخوص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام
وفي هذه السنة شخص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام الى أسافل واسط لطلب الحسن بن عمران فأقام على منازلته والتاث عليه أمره فقتل نفسه.
ذكر شرح الحال في قتل المطهر نفسه










لما توفّى عمران بن شاهين وفرغ عضد الدولة من الأعداء الكبار وقتل بختيار وأبو تغلب وملك ديارهم ورجالهم وحصل بمدينة السلام وكانت نفسه تنازع إلى مصر خاصّة، والى ديار الكفر بعد ذلك من الروم وما والاها، كره أن يجاوره النبط مستعصية ويطاوله صغار أصحاب الأطراف ومن يلوذ بالقصب والغياض والآجام ولا يستأصله فعرّض في مجلسه بذكر الحسن بن عمران والبطيحة وطلب من يكفيه هذا الخطب، فانتدب له أبو الوفاء والمطهر وأظهر كل واحد منهما كفاية فيه.
وتقرر الرأي على إنفاذ المطهر فجرّد معه عسكرا فيه أصناف من الرجال وأزاح علته في السلاح والأموال والعدد والآلات وضمّ إليه أبا الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي وكان في هذا الوقت بها، فانقلب منها الى واسط حتى اجتمع معه بها، فخلع على المطهر وأكرم وسار يوم السبت للنصف من صفر واستخلف له عضد الدولة على الوزارة وتدبير الأعمال وجمع الأموال أبا الريان حمد بن محمد الاصبهاني وذلك لدربته لا لصناعته ولأنّه عرف بطول الممارسة موارد الأمور ومصادرها، وكان واسطة بين عضد الدولة ووزرائه، وكان كالشريك لهم فيما ينفذونه من أوامره.
فلما استقر المطهر بالبريونى من أعمال الجامدة شاور الناس ومحض الرأي، فتقر الأمر على تدبير فاسد قد كان جرّبه من درج قبله مرارا فلم ينتفع به وهو إيقاع السدود على أفواه الأنهار لتنشف البطيحة التي يلجأ إليها عسكر النبط وأنشأ مسنّاة يسلك عليها بالاقدام إلى نفس معاقلهم فأطلقت في ذلك أموال ضاعت وانقطعت المسالك في دجلة وبطل ارتفاع الكار ولزمت مؤن الحصار واثبات الرجال وجاءت المدود فحملت على السدود.
وتوصل الحسن بن عمران الى بعض تلك السدود فبثقها فامتلأت البطائح بالمياه وكان المطهر إذا سدّ جانبا انثلمت عليه جوانب وإذا حفظ وجها أتاه الخلل من وجوه، واتفق مع ذلك أن جرت بينه وبين الحسن بن عمران وقعة في الماء فلم يتمّ له ما قدّره من اصطلامه.
وكان المطهر قد ألف فيما كان باشره من الحروب المناجزة واعتاد المفاصلة ولم يدفع إلى مصابرة قطّ ولا مطاولة. فشقّ ذلك عليه وبلغ منه وكان يتهم أبا الحسن محمد بن عمر العلوي بمراسلة تجرى بينه وبين صاحب البطيحة وهدايا وملاطفات في السرّ منه، وأنّه يطلعه على أسرار التدبير عليه ويهديه إلى مصالحه.
وكانت أخلاق المطهر معروفة بالشراسة والخشنة وكانت أفكاره سيئة فأوجس في نفسه خيفة واستشعر وحشة وتوهّم أنّ استصعاب ما استصعب عليه من هذا الأمر عائد عليه بانخفاض منزلة وانحطاط عن رتبة الوزارة وأنّ أبا الوفاء يجد مساغا للطعن عليه وإظهار معايبه لما كان بينهما من العداوة والمنافسة في المرتبة، واختار الموت على تسلط الأعداء عليه وتمكّنهم منه.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان جلس في مجلسه من عسكره، ودخل إليه الكتّاب والقوّاد وطبقات الناس مسلّمين عليه فتقدم إليهم بالتخفيف والانصراف ونهض إلى خيمة كان يخلو فيها واستدعى طبيبه وأمره بأن يفصده وظنّ أنّه إذا انصرف الطبيب حلّ شداد الفصد واستنزف دمه إلى أن يتلف، وكان قريب العهد بإخراج الدم وشرب الأدوية المسهلة من أجل علة نالته قبل حركته من الحضرة. فأعلمه الطبيب أنّه غير محتاج الى الفصد فزجره وطرده ثم صرف من كان واقفا بين يديه من غلمانه حتى خلا بنفسه وأخذ سكّين دواته فقطع بها شرايين ذراعيه جميعا وأدخلها إلى باطن ثيابه فخرج نفسه في مقاتله ودخل إليه فرّاش كان يختص به فرأى دسته الذي كان جالسا فيه مملوء دما فصاح وتوافى إليه الناس فأدركوه وبه رمق وظنّوا أنّ إنسانا أوقع عليه. ثم تكلم بما بان لهم أنّه تولى ذلك من نفسه. وحفظت عليه ألفاظ يسيرة منها أنّ محمد بن عمر العلوي حمله على ما ارتكبه من نفسه وكلمات يسيرة في هذا المعنى وغيره، ومات من ساعته وحمل الى بلده بكارزين من أعمال فارس فدفن هناك.
وكانت هذه الحادثة من عجائب الزمان إذ فتك هذا الرجل بنفسه خوفا من تغير صاحبه له. ونسئل الله التوفيق والعصمة والستر الجميل برحمته.
وأنفذ عضد الدولة عبيد الله بن الفضل إلى معسكر المطهر لحفظ أسبابه وتقرير أمر صاحب البطيحة على أمر في العاجل من حمل مال وموادعة له إلى أن ينظر في أمره وكان ذلك عقيب عوده من الإيقاع ببني شيبان فانحدر ووفى بما أمر وحمل مالا من قبل الحسن بن عمران وتسلّم منه رهينة وانكفأ بجميع ذلك ودخل الحضرة يوم الأربعاء للنصف من ذي القعدة.
انفراد نصر بن هارون بالوزارة
وفيها انفرد نصر بن هارون بالوزارة لأنّ أصل الوزارة كانت له ثم شورك بينه وبين المطهر. فلمّا مضى المطهر لسبيله وتفرد نصر بن هارون بوزارته وكان مقيما بفارس يدبّر أعمالها استخلف له عضد الدولة أبا الريان حمد بن محمد.
حوادث أخر
وفيها ورد رسول لصاحب المغرب برسائل أدّاها وكان دخوله في شعبان وانصرافه في ذي القعدة وردّ معه القاضي أبو محمد العماني لتأدية الجواب.
وفيها توفى حسنويه بن الحسين في قلعته المعروفة بسرماج.
القبض على محمد بن عمر العلوي وإنفاذه إلى فارس
وفيها قبض على محمد بن عمر العلوي بالبطيحة وأنفذ الى فارس وكان السبب فيه ما حفظ من كلام المطهر قبل وفاته فيه وأنفذ أبو الوفاء طاهر ابن محمد الى الكوفة لقبض أمواله وأملاكه فوصل الى شيء عظيم يستكثر من المال والسلاح وضروب الذخائر التي لا يظنّ بمثله أنّه يجمعها ودخلت اليد في ضياعه وكانت كثيرة تشتمل على جلّ سقى الفرات بل قد تجاوز ذلك إلى غيره من أعمال السواد واصطنع أخوه أبو الفتح أحمد ابن عمر وقلّد الحج بالناس وأقطع إقطاعا سنيّا.
وفي هذه السنة أخذ عبد العزيز بن محمد المعروف بالكراعى أسيرا وشهر بالبصرة وبمدينة السلام ثم قتل وصلب الى جانب صاحبه.
شرح الحال في الحيلة التي تمت عليه حتى أسر وقتل
كان هذا الرجل وضيعا ساقطا طبقته عن كل رتبة، واستخدم في وقت في تفرقة قضيم الكراع ولذلك عرف بالكراعى. ثم وصل بمحمد بن بقية وجمعتهما عاهة النقص ومناسبة السقوط، فارتفع معه حتى قلّده خلافته بالبصرة وجعله مستوفيا على العمال فأثرى وتموّل، وكان منه في أيام عصيان ابن بقية بواسط سوء أدب كثير وذكر الملوك بما لا يليق بالملوك بعضهم في بعض. ثم تنكّر له ابن بقية، فقبض عليه ونكبه. فلمّا قبض بختيار على ابن بقية استخدمه ولما عزم بختيار على الهرب منهزما هرب منه وصار إلى البطائح وكان هناك يجرى على سوء عادته في سوء الأدب.
فدبّر عضد الدولة تدبيرا ثم شطّره عليه ولو قبل جميعه لتمّ أيضا على صاحب البطيحة ما يستغنى معه عن محاربة ومكافحة. وذلك أنّه ووقف جماعة من أهل البصرة ووجوهها أن يخدموا عضد الدولة في مكاتبة يوقعونها إلى هذا الكراعى ويوهمونه أنّهم يوالونه ويضافرونه، فإذا قربوا منه أثاروا الفتنة بمواطأة من سلطان البصرة ثم سلّموا إليه البصرة حتى إذا اغترّ استدعى الحسن بن عمران ليتقوّى به فإذا صار في دجلة حيل بينه وبين الرجوع الى البطيحة وخاشنته الكمناء من أعلى وأسفل. وأخذ فبلغ به الجهل أن صدّق بهذا الوعد وعجل فخرج وأخرج معه الحسن بن عمران وسائر عسكره وقال:
« لي بالبصرة أولياء وإخوان قد كاتبوني والبصرة في أيدينا. » فاغترّ به الحسن ابن عمران وخرج مع عسكره. فلمّا صاروا بمطارا ثار بهم من كان فيها من الرجال وقاتلوهم، وأخطئوا لأنّ تمام التدبير كان في أن يتركوهم حتى يوغلوا إلى البصرة. فأقام القوم يقاتلونهم ثم ظفر بالكراعى وانهزم الحسن ابن عمران بعد أن ملكت عليه قطعة وافرة من سفنه ورجاله، وحمل الكراعى إلى البصرة فشهر وعوقب وطولب بالمال، ثم أنفذ إلى بغداد فشهر منصوبا على نقنق في سفينة وعلى رأسه برنس وذلك يوم الخميس لعشر ليال بقين من شعبان فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة طرح الى الفيلة فخبطته وصلب إلى جانب ابن بقية.
نفاذ عسكر إلى عين التمر
وفي هذه السنة نفذ عسكر إلى عين التمر في طلب ضبّة بن محمد الأسدى - وقد مرّ ذكره وأنّه ممن يسلك سبيل الدعار ويسفك الدماء ويخيف السبل وينهب القرى ويبيح الأموال والفروج - وانتهك حرمة المشهد بالحائر فلمّا أظلّ عليه العسكر المجرّد هرب بحشاشته إلى البادية وأسلم أهله وحرمه فحصل أكثرهم في الأسر وملكت عين التمر.
تدبير عضد الدولة للجمع بين الملك والخلافة
وفيها دبّر عضد الدولة أن يقع بينه وبين الطائع لله وصلة بابنته الكبرى، ففعل ذلك وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار وبنى الأمر فيه على أن يرزق ولدا ذكرا منها فيولّى العهد وتصير الخلافة في بيت بنى بويه ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة الديلمية.
مسير عضد الدولة إلى الجبل
وفي هذه السنة سار عضد الدولة الى الجبل وأعمالها ودوّخ همذان والدينور ونهاوند لافتتاح قلاع حسنويه بن الحسين الكردي وتدبير فخر الدولة في قصده ومقابلته على ما كان منه في مكاشفته والاجتهاد في تشتيت شمل الدولة وتفريق الكلمة ومعاضدة بختيار وابن بقيّة، وقد كان أظهر مباينة مؤيد الدولة وكاتب قابوس بن وشمكير.
رسائل عضد الدولة إلى مؤيد الدولة وإلى فخر الدولة وإلى قابوس بن وشمكير
ولما هلك حسنويه بن الحسين أمّل عضد الدولة أن يكون الشيطان الذي نزغ بينه وبين اخوته قد زال. وأنفذ أبا نصر خرشيد يزديار الخازن برسائل إلى مؤيد الدولة، وإلى فخر الدولة، وإلى قابوس بن وشمكير.
أمّا إلى مؤيد الدولة فبإحماده على طاعته التي ما غيّرها ولا كدّرها.
وأمّا إلى فخر الدولة فبالمعاتبة والمداراة والزيادة في الأخذ بالحجة.
وأمّا إلى قابوس بن وشمكير فبالمشورة عليه بحفظ الذمّة التي تعلّق بها وحفظ نعمته وترك التعرّض لما يورطه ويهلكه.
أجوبتهم عن تلك الرسائل
فأمّا مؤيد الدولة فإنّه أجاب جوابا سديدا وأنّه واقف على حدود طاعته وتابع له في رضاه وغضبه.
وأمّا فخر الدولة فأجابه جواب النظير الذي لا يرى لرتبة الملك مزيّة ولا لكبر السن وعهد الأب فضيلة ولا في المعاودة إلى جميل الطاعة نيّة.
وأمّا قابوس فأجاب جواب المتهيّب المحجم المراقب.
افتراق أولاد حسنويه
وافترق أولاد حسنويه فرقا واختلفت بهم المذاهب وهم: أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك.
فطائفة منهم انحازت إلى فخر الدولة مظهرة لمشاقّة عضد الدولة، وطائفة وردت حضرته. فأمّا بختيار من بينهم فإنّه نافر إخوته وكان مقيما في قلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فابتدأ بمكاتبة عضد الدولة وبذل تسليم ذلك إليه وذكر رغبته في الاعتصام به والدخول في كنفه ثم تلوّن ولم يف.
فتشوّف عضد الدولة للمسير إلى الجبل وتهذيب أعمالها فابتدأ فقدّم عساكره يتلو بعضها بعضا: فجرد أبا الفتح المظفّر بن محمد الحاجب وأبا نصر خواشاذه وأبا الوفاء طاهر بن محمد، وبرز عن داره إلى المعسكر بالمصلى من الجانب الشرقي بعد أن أقرّ أبا الريان بالحضرة على جملته من خلافة الوزارة، ولكن زاد في منزلته وناط به جميع أمور المملكة، وطال مقامه بالمعسكر الذي برز إليه إلى أن أوغلت تلك الجيوش السائرة على مقدمته.
وقد كان أبو نصر خواشاذه وطّأ الأمور عند خروجه لتأدية الرسائل.
فواقف القواد والوجوه أن يخدموا عضد الدولة بنيّاتهم، فإذا سار استأمنوا إليه وضمن لهم الإقطاعات السنيّة وحمل إلى بعضهم الهدايا والألطاف في السرّ.
فلما سار تلقّته في طريقه البشائر بدخول جيشه همذان واستئمان العدد الكثير من قوّاد فخر الدولة ورجال حسنويه وتلقّيهم رايته منحازين إليها. وتلقّاه أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير حاشيته وبقية قوّاده وغلمانه فانحلّ أمر فخر الدولة واحتاج إلى مفارقة موضعه واللحاق ببلد الديلم، فمضى ونزل دارا كان بناها معزّ الدولة بهوسم، ولجأ إلى الداعي العلوي المستولى على ذلك الصقع.
وعرّج عضد الدولة إلى نهاوند وافتتح قلعة سرماج واحتوى على ما فيها، وملك غيرها من قلاع تلك البلاد، وألقت إليه الحصون مقاليدها، وأخرجت الأرض أثقالها.
ولحقته في هذه السفرة علّة عاودته مرارا وكانت شبيها بالصرع وتبعه مرض في الدماغ يعرف بليترغس وهو النسيان، إلّا أنّه أخفى ذلك.
ويقال: إنّ مبدأ ذلك به كان بالموصل إلّا أنّه لم يظهر أمره لأحد.










واخيرا نهاية المجلد السادس ارجو ان ينال اعجابكم










سيرتهم وكيف ضبطوا ممالكهم ونيّات أصحابهم بضروب الضبط: أولا بالدين الذي يحفظ نظامهم ويملك سرائهم ثم بأصحاب الأخبار الثقات والعيون المذكاة على مدبّرى أمورهم والتفقّد لهم يوما يوما وحالا فحالا، وترك إيحاشهم ما أمكن، ومداراة من تجب مداراته، والبطش بمن لا حيلة في استصلاحه ولا دواء لسريرته. وقد كان حصفاء الملوك يخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جدا إلى أصحاب الأخبار ولا يستكثرونها في جنب ما ينتفعون به من جهاتهم.
فأما ما انتهى إليه أمر ديسم فإنّه خاف بعد ذلك على نفسه وسأل المرزبان أن يخرجه إلى قلعته بالطرم ليقيم فيها مع أهله ويقبض على ارتفاع ضياعه وهو ثلاثون ألف دينار في السنة وهو دون ما كان يبذله المرزبان له ويتكلّفه من مؤونته. فأجابه إلى ذلك وحصل في القلعة مصونا في أهله ونفسه وضياعه.
ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة
وفيها وافى الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى عسكر أبي جعفر بإزاء البصرة وأظهر أنّ السلطان كاتبه في حرب البريدي. فأقام مدّة يحاربهم ثم استأمن جماعة من قوّاده إلى البريديين مثل روستاباش وغيره. فاستوحش من المقام وعاد إلى الأهواز بعد أن استأمن إليه جماعة من عسكر البريدي.
وفيها زوّج ناصر الدولة ابنته من الأمير أبي منصور ابن المتّقى ووقّع الأملاك والخطبة بحضرة المتقى ولم يحضر ناصر الدولة وجعل العقد إلى أبي عبد الله محمّد بن أبي موسى الهاشمي. وكان الخاطب القاضي الخرقى فلحن في مواضع وجعل الصداق والنحلة واحدا وجعلها صداقا وكان الصداق خمسمائة ألف درهم والنحلة مائة ألف دينار ولم يحسن أن يعقد التزويج فعقده ابن أبي موسى.
القبض على القراريطي وجعل اسم الوزارة على أبي العباس الإصفهاني
وفي رجب من هذه السنة عبر الوزير أبو إسحاق القراريطي إلى ناصر الدولة على رسمه، فقبض عليه وعلى جماعة معه. فكانت مدّة وزارته ثمانية أشهر وستة عشر يوما وجعل اسم الوزارة على أبي العباس أحمد بن عبد الله الإصفهاني وخلع عليه المتقى خلع الوزارة في دار السلطان لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وانصرف بها إلى دار الأمير ناصر الدولة.
فكان يلبس القباء والسيف والمنطقة في أيام المواكب والمدبر للأمور أبو عبد الله الكوفي وصودر القراريطي والكتّاب والمتصرّفون.
استيفاء عدد الأيدى والأرجل المقطوعة
وكان ناصر الدولة ينظر في قصص أصحاب الجنايات من العامّة وفيما ينظر فيه صاحب الشرطة وتقام الحدود الواجبة عليهم من ضرب وقطع يد ورجل بحضرته وتعرض عليه الأيدى والأرجل إذا قطعت وتعد بحضرته ويستوفى العدد عليهم لئلا يرتفق أصحاب الشرطة من الجناة ويطلقوا من غير علمه.
ذكر ما آل إليه أمر سيف الدولة بواسط مع الأتراك وما اتصل بذلك من خبر ناصر الدولة ببغداد
كان سيف الدولة أبو الحسن مقيما بواسط مفكرا في أن يسير بالجيش والأتراك إلى البصرة ليفتحها. وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال ويضايق الأتراك خاصة وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط ويتحكّمان عليه حتى ضاق ذرعا بهما.
وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفي إلى سيف الدولة أخيه ومعه ألفي ألف درهم وخمسين ألف دينار لينفق في الأتراك. فوثب توزون وخجخج به بحضرة سيف الدولة وأسمعاه مكروها. فضمّه سيف الدولة إلى نفسه ثم ستره في بيت وقال لهما:
« أما تستحيان مني فتجاملانى في كاتبي. » ثم واقف سيف الدولة كاتب خجخج أن يسير خجخج إلى المذار ويسوّغه ارتفاعها إذا حماها وواقف أبا عليّ المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة ويوهب له ارتفاعها وعليه حمايتها. وانتظم هذا التدبير وعاد الكوفي إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة ورهب أن يعود إلى منزله وعبر خجخج إلى غربي واسط للمسير واستعدّ توزون أيضا للمسير إلى الجامدة.
فوافى أبو عمرو المسيحي وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هاربا من ناصر الدولة إلى أخيه أبي عليّ المسيحي وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطه إليه يقول فيه:
« قد اتّصل طمعك فيّ وانبساطك عليّ وأنا محتمل وأنت مغترّ. وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان. وو الله لئن لم تخلّصها وتقصر عن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك. » فزعم أبو عمرو المسيحي أنّه قرأه وانحدر وذكر أنه قال له قبل ذلك بأيام:
« يا مسيحيّ، أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميرا وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتبا لنفسه وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهه فاستكتبه وأنف منك فصادرك. » فتلافى سيف الدولة أبا عمرو المسيحي وواراه وراسل توزون وسكّنه. وكان سيف الدولة كثيرا يزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويضرّب بينهم وبين أخيه فكانوا يصدقونه في أخيه ويأتون عليه في البعد من العراق وكانوا يستحبّون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم وينصّون على أن يوفيهم يوم الستين من أيامهم استحقاقهم ويستصغرونه وأخاه.
فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له:
« نحتاج أن تحمل مال قائد قائد ورجاله وتوفّينا ذلك بالقبّان وزنة واحدة مالا مالا. » فأجاب إلى ذلك قطعا للحجّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار فصبر على ذلك كلّه وأذن فيه.
وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفي ليلا وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد في جماعة من العرب وأصعد معه بنفسه إشفاقا عليه ثم وصّى العرب حتى بلغوا به المدائن. فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان كبس الأتراك سيف الدولة بالليل وهرب من معسكره ولزم نهرا بقرب معسكره، فأدّاه إلى قرية تعرف ببرقة ولزم البريّة حتى وافى بغداد. وأضرم الأتراك النار في عسكره وقد كان بقي من المال المحمول إليه مع الكوفي من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه ونهب جميع سواده فهذا خبر سيف الدولة بواسط.
خبر ناصر الدولة ببغداد
فأمّا خبر ناصر الدولة ببغداد فإنّ أبا عبد الله الكوفي وصل إلى بغداد ولقي ناصر الدولة ووصف له الصورة فبرز ناصر الدولة إلى باب الشمّاسية وركب إليه المتقي لله في دجلة يسأله التوقّف عن الخروج من بغداد فعبّر ناصر الدولة غلمانه إلى الجانب الشرقي من بغداد وأكثر جيشه ليوهم الأتراك أنه يعبر ويسير في الجانب الشرقي.
فلمّا حصل جيشه في الجانب الشرقي قطع الجسر وسار ناصر الدولة في الجانب الغربي فنهبت داره، وأفلت يانس غلام البريدي وأبو الفتح ابن أبي طاهر من الحبس وعادا إلى البصرة، واستتر أبو عبد الله الكوفي، وخرج من بقي من الديلم ببغداد إلى المصلّى وعسكروا هناك، وضبط الأتراك الذين كانوا ببغداد دار السلطان، ورحل الديلم من المصلّى ودبّر الأمور بالحضرة أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة، وانعقدت الرئاسة بواسط لتوزون.
فكانت مدّة إمارة ناصر الدولة أبي محمّد ابن حمدان ثلاثة عشر شهرا وثلاثة أيام.
ذكر ما جرى من أمر توزون بواسط مع الأتراك بعد هزيمة سيف الدولة حتى تمت له الإمارة
لمّا انصرف سيف الدولة من واسط على تلك الصورة وعاد توزون وخجخج إلى معسكرهما وقع الخلاف بينهما وتنازعا الرئاسة ثم استقرّت الحال على أن يكون توزون الأمير وجيء بالآس والريحان إليه على رسم العجم إذا ترأّس واحد منهم، وعلى أن يكون خجخج صاحب جيش وهو الاسفهسالار، وأمضى القوّاد ذلك عليهما بغير رضى جماعة. ثم صاهر القوّاد بينهما وطمع البريدي بواسط فأصعد إليها وتقدّم توزون إلى خجخج أن ينحدر إلى نهر أبان ويراعى من يرد من أصحاب البريدي ويطالعه فنفذ.
ووافى عيسى بن نصر برسالة البريدي إلى توزون يهنّئه بالإمارة ويسأله أن يضمّنه أعمال واسط ويعرّفه عنه أنّ الرأي تعجّله إلى الحضرة لإخراج ابن حمدان عنها. فأجابه جوابا جميلا وامتنع من التضمين وقال:
« إذا استقرّت الأمور تخاطبنا في الضمان فأمّا وأنا بصورتي هذه وأنت تظنّ انى مطلوب خائف من بنى حمدان فلا وعسكري عسكر بجكم الذي قد جرّبت وخبرت وطائفة منهم تفي لك. » وانصرف عيسى بن نصر وأتبعه توزون جاسوسا.
ذكر سبب قبض توزون على خجخج وسملة إياه
فعاد إليه الجاسوس وأعلمه أنّه اجتمع مع خجخج وتخاليا طويلا وأنّ خجخج على الاستئمان إلى البريدي. فسار إليه توزون للثاني عشر من رمضان ومعه مائة غلام من الأتراك ومائة من الخاصة واشكورج وجماعة من الكبار وكبسه في فراشه. فلمّا أحسّ به ركب دابة النوبة بقميصه وفي يده لتّ ودفع عن نفسه سويعة ثم أخذوه وجاءوا به إلى واسط وسملة توزون وهدأت نار خجخج.
وسعى أبو الحسين عليّ بن محمّد بن مقلة في الوزارة وراسل المتقي لله واستصلح قبل ذلك الترجمان وضمن له مالا فبعث المتقى إليه:
« إني راغب فيك مائل إليك محبّ لتقليدك، ولكن ليس يجوز أن أبتدئ بذكرك فأصلح أمرك مع الترجمان وقل له يسمّيك مع جماعة فإني أختارك من بينهم. » ففعل ذلك ولقي المتقي لله وقلّده وزارته وانصرف إلى منزله.
وورد الخبر بنزول سيف الدولة المورفه
ذكر الخبر عن مصير سيف الدولة إلى بغداد بعد هزيمته وما انتهت إليه حالته
لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وخجخج بواسط طمع في بغداد فوافى المورفة وظهر المستترون من أصحابه من الجند وخرجوا إليه. وانحدر أبو عمرو المسيحي كاتب توزون إلى واسط مستترا هاربا إلى صاحبه وانحدر أيضا الترجمان. وأرجف الناس بانحدار المتقى واضطرب الناس وأصبحوا على خوف شديد، فأمر المتقي لله بالنداء ببراءة الذمة ممّن أرجف بانحداره.
وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل في المضارب وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّية، وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات وجرت بينه وبين المتقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي وطالب بأن يحمل إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة. فحمل إليه المتقى أربعمائة ألف درهم في دفعات وانضمّ إليه كلّ من بقي بالحضرة من القوّاد وما زال يقول في مجلسه: « ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام وإلّا فليحضر نهارا ونحن مستيقظون. » ونحو هذا من الكلام.
وخلع المتقي لله على الوزير أبي الحسين بن مقلة يوم السبت لاثنى عشر بقيت من شهر رمضان.
ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة الى بغداد خلّف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة غلام وأصعد مبادرا من واسط إلى بغداد. ولمّا اتصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع من انضمّ إليه من قوّاد الحضرة وفيهم أبو عليّ الحسن بن هارون. ومضى على وجهه.
ودخل محمّد بن ينال الترجمان آذنا لتوزون إلى بغداد لستّ بقين من شهر رمضان ودخل توزون من الغد ونزل دار مونس واغتنم البريدي بعد توزون من واسط، فوافاها لثلاث بقين من شهر رمضان، فنهب وأحرق واحتوى على الغلات وأخذ جميعها وقبض توزون على أبي عمرو المسيحي كاتبه وقلّد كتابته أبا جعفر الكرخي وسلّم أبو إسحاق القراريطي إلى الوزير أبي الحسين ابن مقلة فصادره.
ذكر الخبر عن تقليد توزون إمرة الأمراء
لمّا حصل توزون ببغداد خلع المتقى عليه وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء. وصار أبو جعفر الكرخي كاتب توزون ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها. فأمّا الكوفي فإنّه لحق بسيف الدولة وهرب معه فكان مدّة نظر الوزير أبي الحسين ابن مقلة في الأمور إلى أن ينظر فيها أبو جعفر الكرخي نحو شهر.
وقد كان كيغلغ لمّا استخلفه توزون بواسط أمره بقتال أبي الحسين البريدي فعجز عنه، فأصعد إلى بغداد ولم يمكن توزون المبادرة بالرجوع إلى واسط إلى أن تستقرّ الأمور بالحضرة، وتدبير جميع ما يحتاج إليه. فأقام مدّة شوّال وأكثر ذي القعدة إلى أن توطّأت الأمور واستقامت.
وكان وقت هزيمة سيف الدولة من واسط أسر غلاما له يقال له: ثمل، عزيزا على سيف الدولة فأطلقه ووهبه لسيف الدولة وأكرمه وأنفذه إليه في هذا الوقت لما حصل ببغداد، فحسن موقع ذلك منه ومن ناصر الدولة حتى قال بالموصل:
« توزون صنيعتي وقد قلّدته الحضرة واستخلفته بها ».
فسكنت نفس توزون إلى ذلك، وكان مغيظا على البريدي لقبح ما عامله به.
فانحدر توزون إلى واسط وخلّف الترجمان ببغداد وتقدّم إلى أبي جعفر الكرخي أن يلحق به، وضمّن ضياعه أبا الحسين ابن مقلة برغبة منه إليه بمائة وثلاثين ألف دينار في السنة.
ووافى في هذا الوقت أبو جعفر بن شيرزاد إلى توزون هاربا من البريدي فتلقّاه توزون في دجلة وسرّ به وقال له:
« يا أبا جعفر كملت إمارتى بك وتمّت النعمة عندي لأجلك. أنت أبي وهذا خاتمي - فنزعه من يده وأعطاه إليه - فدبّرنى وصرّفنى على رأيك. » فقبّل أبو جعفر يده وسأله أن يمهله، فلم يجبه. وكان أبو الحسن الأسمر واقفا وجماعة فقال الأسمر:
« بالله يا سيدي، أجب الأمير وتصدّق بصدقة وانظر في أمره. » ففعل ونظر في أمره وأنفذ طازاد ابن عيسى آخر ذلك اليوم إلى الحضرة لخلافته.
فكان مدّة كتابة أبي جعفر الكرخي ونظره نيّفا وعشرين يوما.
ذكر سبب مفارقة ابن شيرزاد البريدي والاتفاق الغريب له في ذلك
كان يوسف بن وجيه صاحب عمان وافى في ذي الحجّة في مراكب وشذاءات يريد البصرة فيحارب بنى البريدي وكان معه من يحارب بقوارير النار فأحرق شذاءاتهم وزبازبهم. فملك الأبلّة وضغطهم. فهرب في تلك الوهلة أبو جعفر ابن شيرزاد ومعه طازاد وغيره.
فأما سبب هزيمة يوسف بن وجيه بعد تمكّنه فسنذكره.
ذكر حيلة تمت على يوسف بن وجيه
كان قد استظهر استظهارا شديدا وقارب أن يملك البصرة وكان مع البريدي ملّاح يعرف بالزيادى. فلمّا ضغط يوسف بن وجيه البريديين وأشرفوا على الهلاك قال هذا الملّاح:
« إن أنا هزمت العدوّ وأحرقت مراكبه ما تصنع بي؟ » فوعده الإحسان إليه إن فعل ذلك.
ولم يعرّفه الملّاح ما يريد أن يعمل وكتم أمره ومضى. فأخذ بالنهار زورقين وليس يعلم أحد لما ذا يريدهما ولم يأخذ معه أحدا من أسباب البريدي ومضى فملأ الزورقين سعفا - ومثل هذا لا ينكر بالبصرة - وحدرهما في أوّل الليل - ومثل ذلك بالبصرة كثير لا يستراب به - وكان رسم مراكب ابن وجيه أن تشدّ بعضها إلى بعض بالليل في عرض دجلة فيصير كالجسر.
فلمّا كان في الليل ونام الناس وكلّ من في المراكب، أشعل ذلك الملّاح السعف وأرسل الزورقين والنار فيهما، فوقعا على تلك المراكب والشذاءات فاشتعلت واحترقت قلوسها وتقطّعت واحترق من فيها ونهب الناس منها مالا عظيما. وانقلع يوسف ابن وجيه ومضى هاربا على وجهه، وانكشف وجه البريدي ووفى للملّاح بما وعد له.
وفيها استوحش المتقى من توزون.
ذكر السبب في الوحشة بين توزون والمتقى وما آل إليه الأمر
كان الترجمان قد نفر من توزون لشيء بلغه عنه وكان أبو الحسين ابن مقلة خائفا من توزون لأنه خسر في مال ضمانه وأشفق أن يطالبه به ويهلكه وزاد في نفوره. وتقلّد أبي جعفر ابن شيرزاد كتبة توزون وما شكّ أحد أنّ أبا جعفر ابن شيرزاد وافى عن موافقة البريدي فطارت نفس ابن مقلة خوفا من ابن شيرزاد وأن يطالبه بمال ضمانه واقطاع توزون وخاف الترجمان وغيره وساءت الظنون وغلب القنوط على الكافّة من أهل الحضرة. فوقع التدبير بين أبي الحسين ابن مقلة وبين الترجمان على مكاتبة ناصر الدولة في إنفاذ من يشيّع المتقى ويخرجه إليه.
وقيل للمتقى:
« ثبتّ للبريدى بالأمس فجرى ما ندمت عليه وأخذ منك خمسمائة ألف دينار وخرجت إلى ناصر الدولة في دفعته الثانية فأظفرك الله وعدت موفورا وقد ضمنك بخمسمائة ألف دينار أخرى. » وقال لتوزون:
« هي باقية في يدك من تركة بجكم وهذا ابن شيرزاد وارد لتسليمك بعد خلعك. » فانزعج واعتبر بما مضى على مستأنف أمره. وأصعد بعد ذلك أبو جعفر ابن شيرزاد إلى الحضرة في ثلاثمائة غلام.
موت نصر بخراسان وانتصاب نوح ابنه
وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد بخراسان وانتصاب نوح ابنه مكانه.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)