









عسكر سرخاستان على غفلة من غير أن يعلم بذلك صاحبهم. فنظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا يدخلون من الحائط. وبلغ الحسن بن الحسين ذلك فأشفق أن تكون حيلة فجعل يصيح ويمنع من الدخول وهم لا يقبلون حتى نصبوا أعلامهم على السور في معسكر سرخاستان.
وانتهى الخبر إلى سرخاستان وهو في الحمّام وسمع الضجيج فلم تكن له همّة إلّا الهرب فخرج هاربا في غلالة ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر ومضى قوم في الطلب.
فتحدّث زرارة بن يوسف قال: بينا أنا في الطريق إذ صرت في موضع يسرة الطريق فوجلت منه ثم اقتحمته بالرمح ولم أر أحدا ولكنى صحت:
« من أنت ويلك. » فإذا رجل يصيح:
« زينهار. » يعنى: الأمان. فأخرجته وإذا هو شيخ جسيم فقلت:
« من أنت؟ » فقال: « أنا شهريار. » وإذا به أخو سرخاستان صاحب العسكر.
فحملته إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه.
وأمّا سرخاستان فإنّه مضى على وجهه وكان عليلا فلمّا جهده العطش نزل عند غيضة واستلقى وصاح بعض أصحابه ممّن تبعه:
« يا فلان اسقني ماء فقد جهدنى العطش. » فقال: « ليس معي ما أغرف به من هذا الموضع. » فقال له سرخاستان:
« خذ رأس جعبتى فاسقني به. » فنظر الرجل إلى أصحابه وقال لهم:
« هذا الشيطان قد أهلكنا. فلم لا نتقرّب به إلى السلطان ونأخذ لأنفسنا أمانا؟ » فأجابوه إلى ذلك ووثبوا عليه وشدّوه كتافا فقال لهم:
« خذوا منى مائة ألف واتركوني فإنّ العرب لا تعطيكم شيئا. » قالوا: « أحضرها. »
قال: « هاتوا ميزانا. » فقالوا: « من أين لنا ها هنا ميزان؟ » قال: « فمن أين لي هاهنا ما أعطيكم. ولكن صيروا معي إلى المنزل وأعطيكم العهود والمواثيق أنّى أفي لكم بذلك. » فصاروا به إلى الحسن بن الحسين واستقبلهم خيل الحسن بن الحسين.
فضربوا رؤوسهم وأخذوا سرخاستان منهم فهمّتهم أنفسهم، ومضى به أصحاب الحسن إلى الحسن فدعا بوجوه أصحابه وسألهم:
« هل هذا سرخاستان؟ » قالوا:
« نعم هو هو. » فأمر به فضربت عنقه.
وكاتب حيّان بن جبلة من ناحية طميش قارن بن شهريار ورغّبه في الطاعة وضمن له أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه وكان قارن هذا ابن أخي مازيار وقد قوّده مع أخيه عبد الله بن قارن وضمّ إليه عدّة من ثقات قوّاده وقراباته، فلمّا استماله حيّان اطمأنّ إليه وضمن له قارن أن يسلّم إليه الجبال أو مدينة ساريه إلى حدّ جرجان على أن يملّكه على مملكة أبيه وجدّه إذا وفي له بالضمان، وكتب بذلك حيّان إلى عبد الله بن طاهر فسجّل له عبد الله بن طاهر بكلّ ما سأل، وكتب إلى حيّان يأمره بالتوقّف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدلّ به على الوفاء لئلّا يكون منه مكر، وكتب حيّان إلى قارن بذلك.
فدعا قارن بعمّه عبد الله بن قارن أخي مازيار ودعا جميع قوّاده إلى طعامه. فلمّا أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنّوا أحدق بهم أصحابه في السلاح، وكتفهم ووجّه بهم إلى حيّان بن جبلة. فلمّا صاروا إليه استوثق منهم وركب حيّان في جمعه حتى دخل جبال قارن وبلغ مازيار الخبر، فاغتمّ وقلق وقال له أخوه كوهيار:
« في حبسك عشرون ألفا من المسلمين ما بين إسكاف وخيّاط وقد شغلت نفسك بهم، وإنّما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقراباتك. فما تصنع بهؤلاء المحبّسين عندك. » فأمر بأن يخلّى جميع من في محبسه. ثم دعا بكتّابه وخلفاءه وصاحب خراجه وصاحب شرطه وقال لهم:
« إنّ حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل وقد دخلت العرب إليه، وأكره أن أسومكم فاذهبوا إلى منازلكم وخذوا الأمان لأنفسكم. » وواصلهم وأذن لهم في الانصراف.
ولمّا بلغ قوهيار أخا مازيار دخول حيّان ساريه، أطلق محمد بن موسى عامل طبرستان من حبسه وحمله على بغل ومركب ووجّهه إلى حيّان ليأخذ له الأمان ويجعل له جبال أبيه وجدّه، على أن يسلّم إليه مازيار ويوثق له بذلك. وضمّ إليه أحمد بن الصقير وهو من مشايخ الناحية ووجوهها. فلمّا سار محمد بن موسى إلى حيّان وأخبره وسأله قوهيار قال له حيّان:
« من هذا؟ » - يعنى أحمد.
قال: « هذا شيخ هذه البلاد يعرفه الخلفاء ويعرفه الأمير عبد الله بن طاهر. »
ورأى حيّان تحت أحمد برذونا ضخما نبيلا، فبعث إليه يسأله أن يقوده إليه ليراه، فبعث به، فلمّا تأمّله وجده مشطّب اليدين فزهد فيه وقال لرسول أحمد:
« هذا لمازيار ومال مازيار لأمير المؤمنين. » فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب من فعل حيّان به ذلك، وكتب إلى قوهيار:
« ويحك لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عمّ الأمير عبد الله بن طاهر وتدخل في أمان هذا العبد الحائك وتدفع إليه أخاك وتضع من قدرك ويحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إيّاه وميلك إلى عبد من عبيده. » فكتب إليه قوهيار:
« قد غلطت في أوّل الأمر وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد ولا آمن إن خالفته أن يناهضنى ويحاربني ويستبيح منازلي وأموالى وإن قاتلته وقتلت من أصحابه وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء ويبطل ما نحن فيه. » فكتب إليه أحمد:
« إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنّه عرضت لك علّة منعتك من الحركة وأنّك تتعالج ثلاثة أيّام فإن عوفيت وإلّا صرت في محمل وسنحمله نحن على قبول ذلك منك. » ثم إنّ أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميش ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميش فكتب إليه أن:
« اركب إلينا لندفع إليك قارن والجبل وإلّا فاتك فلا تقيم. » فلمّا وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته وسار مسير ثلاث ليال في ليلة حتى انتهى إلى ساريه. ولمّا أصبح سار إلى خرّماباذ وهو يوم موعد قوهيار، وسمع حيّان وقع طبول الحسن فركب وتلقّاه على رأس فرسخ. فقال له الحسن:
« ما تصنع ها هنا ولم توجّه إلى هذا الموضع وقد فتحت جبال شروين وتركتها وراءك فما يؤمنك أن يغدر بك القوم جميع ما عملت عليك، ارجع إلى الجبل وأشرف على القوم إشرافا لا يمكنهم الغدر إن همّوا به. » فقال له حيّان:
« أنا على الرجوع وأريد أن أحمل أثقالى وأتقدّم إلى رجالي بالرحيل. » فقال له الحسن:
« امض أنت فإني باعث بأثقالك ورجالك خلفك وبت الليلة بساريه حتى يوافوك ثم بكّر من غد. » فخرج حيّان من فوره ولم يقدر على مخالفة الحسن. ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر وهو بلبون من جبال ونداهرمزد من أحصن جباله وكان أكثر مال مازيار بها، وأمره عبد الله ألّا يمنع قارن ممّا يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هناك من المال من ذخائر مازيار وسرخاستان وباستاندرة وبقدح السليان واحتوى على ذلك كلّه فانتفض على حيّان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك البرذون.
ثم أمر محمد بن موسى وأحمد بن الصقير الحسن وناظراه سرّا فجزاهما خيرا، وكتب إلى قوهيار فوافاه وبرّه وأكرمه وأجابه إلى كلّ ما سأل واتّعد إلى يوم ثم صرفه. وصار قوهيار إلى مازيار فأعلمه أنّه قد أخذله الأمان وتوثّق له ثم ورد عليه المازيار وقوهيار.
وتقدّم المازيار فسلّم عليه بالإمرة فلم يردد عليه الحسن وتقدّم إلى طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي فقال:
« خذاه إليكما. »
كتاب بتسليم مازيار وإخوته وأهل بيته إلى المعتصم










ثم ورد كتاب عبد الله بن طاهر بتسليم مازيار واخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم ليحملهم إلى المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمر أن يستقصى جميع ما للمازيار، فبعث الحسن إلى المازيار وأحضره وسأله عن أمواله. فسمّى قوما ذكر أنّ أمواله عندهم، فأحضر قوهيار وكتب عليه كتابا وضمّنه المال الذي ذكر مازيار أنّه عند ثقاته وخزّانه وأصحاب كنوزه وأشهد على نفسه. ثم إنّ الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار ليشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم أنّه قال: لمّا دخلنا على المازيار لنشهد عليه قال المازيار:
« إنّ جميع ما حملت من أموالى وصحبني ستّة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرّد، وستّ عشرة قطعة ياقوتا أحمر، وثمانية أوقار سلالا مجلّدة فيها ألوان الثياب وتاج وسيف محلّى بذهب وجوهر، وحقّ كبير مملوء جوهرا. »
وقد وضعه بين أيدينا وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح وهو جار عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى قوهيار. » قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين فقال:
« أشهدتم على الرجل؟ » قال: « نعم. » فقال: « هذا شيء أخبرت به فأحببت أن تعلموا قلّته. » وذكر عليّ بن ربّن كاتب مازيار أنّ ذلك الحقّ كان شراء جوهره وحسبه على المازيار وشروين وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان مازيار حمل جميع ذلك إلى الحسن بن الحسين على أن يظهر أنّه خرج إليه في الأمان وأنّه قد آمنه على نفسه وماله وولده وجعل له جبال أبيه فامتنع الحسن بن الحسين من ذلك وعفّ عنه وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار. فلمّا أصبح أنفذ مازيار مع طاهر بن إبراهيم وعليّ بن إبراهيم الحربي وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بمازيار مراحل فبعث الحسن فردّه وأنفذه مع يعقوب بن منصور.
قتل قوهيار ذكر ترك حزم بالدالة عاد بهلاك
ثم أمر الحسن القوهيار أخا مازيار بحمل الأموال التي ضمنها ودفع إليه بغالا من العسكر وأمر بإنفاذ جيش معه وامتنع القوهيار وقال: إنه لا حاجة لي فيهم. وخرج وأخرج الأموال ليحملها، فوثب عليه مماليك المازيار من الديالمة وكانوا ألفا ومائتين فقالوا:
« غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب وجئت لتحمل أمواله. » فأخذوه وكبّلوه بالحديد، فلمّا جنّه الليل قتلوه وانتهبوا تلك الأموال والبغال.
فانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشا آخر من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدّة فيهم ابن عمّ للمازيار يقال له شهريار بن المصمغان وكان رأس العبيد ومحرّضهم، فوجّه به قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات في الطريق، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا على طريق الروذبار إلى الرويان.
سبب فساد أمر مازيار
وكان سبب فساد أمر مازيار أنّ جبال طبرستان ثلاثة يتوارثها ثلاثة أولاد لكسرى جبل ونداذ هرمز وجبل أخيه ونداذ سخنان بن الأنداد بن قارن وجبل شروين بن سرخاب بن باب.
فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه فألزمه بابه وإلى أخيه قوهيار وأنفذ إلى هناك واليا من قبله، فلمّا احتاج مازيار إلى رجال لمحاربة عبد الله بن طاهر دعا ابن عمّه وأخاه وقال:
« أنتما أعلم بجبلكما من غيركما. » وقال: « صيرا في ناحية الجبل. »
وكتب إلى الدرنيّ وضمّ إليه العساكر وولّاه السهل ليحارب عبد الله بن طاهر وظنّ أنّه قد توثّق من الجبل بابن عمّه وأخيه القوهيار، وذلك أنّ الجبل لم يكن يظنّ أنّه يؤتى منه لأنّه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثّق من الموضع الذي يتخوّفه بالدّرنى.
فلمّا وجّه عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب في عسكر عظيم من خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب ووجّه معه صاحب خبر يقال له: يعقوب بن إبراهيم مولى الهادي، ويعرف بقوصرة وزحفت العسكر وأحدقت بمازيار دعا ابن عمّ مازيار نار الحقد الذي كان في قلبه على مازيار وتنحيته له عن جبله، إلى أن كاتب الحسن وأعلمه جميع ما يتطلّعه من الأخبار وأخبر خبر الأفشين، وكذلك فعل قوهيار أخوه.
وكانت هذه الأخبار ترد على عبد الله بن طاهر وعبد الله يكاتب بها المعتصم.
فشرط عبد الله بن طاهر لابن عمّ مازيار إن هو وثب بالمازيار أن يردّ عليه جبله وما ورثه عن آباءه فلا يعرض له فيه ولا يحارب. فرضي بذلك وكتب له بذلك كتابا وتوثّق له فيه فلم يشعر المازيار حتى سلّمت الجبال التي كان يأمنها وأتى من مأمنه وأنزل على حكم المعتصم والعسكر الذي مع الدرنيّ بالسهل غارّون في حربهم فأتاهم الحرب من وراءهم وقد أسر مازيار وهلك، فأعطوا حينئذ بأيديهم حتى هلكوا بأسرهم.
وكان عبد الله بن طاهر لمّا أسر مازيار وحصل في يده منّاه ووعده إن هو أظهره على كتب الأفشين، أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنّه قد علم أنّ الكتب عنده، فأمر المازيار بذلك فطلبت الكتب ووجّه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وأمره أن لا يخرج الكتب من يده والمازيار إلّا الى يد المعتصم لئلا يحتال المازيار في الكتب، ففعل إسحاق ذلك فأوصلها من يده إلى يد المعتصم فسأل المعتصم مازيار عن الكتب فلم يقرّ بها فأمر بضربه حتى مات فصلب إلى جانب بابك.
نهاية الدرني
فأمّا الدرنيّ فإنّه كان في نفسه شجاعا بطلا والتقى مع محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان جمع أموالا ورجالا يريد أن يدخل بها بلاد الديلم فلمّا عارضه محمد بن إبراهيم بين الجبل والغيضة والبحر - والغيضة متصلة بالجبل والديلم - حمل الدرنيّ على أصحاب محمد فكشفهم، ثم سار معارضة من غير هزيمة ليدخل الغيضة ولم يزل يحمل ويكشف الناس ويقرب من الغيضة حتى حمل عليه رجل من أصحاب محمد يقال له فند بن حاجيل فأخذه أسيرا واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما صحبه من المال والأثاث والدوابّ والسلاح وأمر محمد بقتل أخيه برزجشنس ودعا الدرنيّ فقطعت يده من مرفقه ومدّت رجله فقطعت من الركبة وكذلك اليد الأخرى والرجل الأخرى فقعد الدرنيّ على استه ولم يتكلّم ولا تغيّر، فأمر بضرب عنقه، فأمّا أصحابه فحملوا مكبّلين.
خلاف منكجور الأسروشني بآذربيجان
وفي هذه السنة خالف منكجور الأسروشنى قرابة الأفشين بأذربيجان.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ الأفشين لمّا فرغ من بابك ولّى أذربيجان منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما فاحتجنه ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر، المال فكوتب منكجور فيه فأنكره وهمّ منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، وذلك أنّه وقعت بينهما فيه مناظرة فهرب عبد الله وامتنع بأهل أردبيل فمنعوه وقاتلوا، وبلغ ذلك المعتصم فوجّه إليه عسكرا عظيما وبلغ منكجور فخلع وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، وقصده القائد مع العسكر الذي خرج من جهة المعتصم وواقفه فانهزم منكجور وصار إلى حصن لبابك في جبل منيع فبناه وأصلحه وتحصّن فيه ووثب به أصحابه بعد شهر وأسلموه إلى القائد الذي يحاربه، فقدم به سرّ من رأى.
ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين
وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسيّ وتوجّه ووشّحه.
وفيها أحرق غنّام المرتد.
وفيها قدم بمازيار سرّ من رأى وحمل على الفيل.
وكنا ذكرنا أنّ محمد بن عبد الملك قال بيتين في بابك لمّا حمل وهو بهذا أشبه أعنى بمازيار وهما:
قد خضب الفيل كعاداته ** لحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلّا لذي شأن من الشان










وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب.
وفيها حبس الأفشين.
حبس الأفشين
ذكر السبب في ذلك
كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك.
وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله في أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد في أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم:
« من أين لكم هذا المال؟ » فقالوا: « هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله. » فقال: « كذبتم لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إليّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص. » وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال:
« أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إليّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين في كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك. » فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين.
ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم.
ذكر حيل هم بها الأفشين
فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا في قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم وقوّاده ثم يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام.
فكان في تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه في قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم في يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل في أوّل الليل تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته.
وكان الأفشين تنوب قوّاده في دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن:
« ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له. » فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ - وكان ليلا - وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال:
« إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة. » فقال له إيتاخ:
« أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين. » فقال واجن:
« ليس يمكنني أن أصبر إلى غد. » فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم:
« ليبت عند إيتاخ ثم يباكرنى. » فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين حتى لا يفوته. وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له في ضياعه.
فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين:
« إني قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية. » وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن في قلّة من أصحابه حتى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم.
وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفي وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور.
فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم في داره لمناظرة الأفشين.
ذكر مناظرات وبخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها
أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد في الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات.
بين محمد الزيات والأفشين
فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما:
« ما شأنكما؟ » فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد:
« أتعرف هذين الرجلين؟ » فقال: « نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض عليّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما. » فقال محمد:
« ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عز وجل. »
قال: « هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام. »
بين الموبذ والأفشين










ثم تقدّم الموبذ فقال:
« إنّ هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنّها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يأخذ كلّ يوم شاة سوداء يضرب وسطها بالسيف ثم يمشى بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي [ يوما ]:
إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كلّ شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أنّى إلى هذه الغاية لم تسقط مني شعرة - يعنى أنّه لم يختتن. » فقال الأفشين:
« خبّروني عن هذا المتكلّم أثقة هو عندكم في دينه؟ » - وكان الموبذ بعد مجوسيا ثم أسلم على يد المتوكّل.
قالوا: « لا. » قال: « فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا ترون عدالته؟ » ثم أقبل على الموبذ فقال:
« هل بين منزلي وبين منزلك باب أو كوّة تطلعني منها وتعرف أخبارى؟ »
قال: « لا. » قال: « أفليس كنت أدخلك إليّ فأبثّك سرّى وأخبرك بالأعجمية وميلى إليها وإلى أهلها؟ » قال: « نعم. » قال: « فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذ أفشيت عليّ سرّا أسررته إليك. » ثم تنحّى الموبذ.
بين المرزبان والأفشين
وتقدّم المرزبان. فقالوا للأفشين:
« هل تعرف هذا؟ » قال: « لا. » فقيل للمرزبان: « هل تعرف هذا؟ » قال: « نعم هذا الأفشين. » فقالوا له: « هذا المرزبان. » ثم قال له المرزبان:
« يا ممخرق كم تمّوه وتدافع؟ » فقال الأفشين:
« يا طويل اللحية ما تقول؟ » قال: « كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ » قال: « كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدّى. »
قال: « فقل. » قال: « لا أقول. » قال المرزبان:
« أليس يكتبون إليك بالأسروشنيّة بكذا وكذا؟ » قال: « بلى. » قال: « أفليس بالعربية: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان؟ » قال: « بلى. » قال محمد بن عبد الملك:
« والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا، فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ » قال: « كانت هذه عادة القوم لأبي وجدّى ولى قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونها فتفسد عليّ طاعتهم. » فقال له إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:
« كيف تحلف لنا بالله فنصدّقك ونصدّق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدّعى ما ادّعى فرعون؟ » فقال: « يا با الحسن هذه سورة قرأها عجيف على عليّ بن هشام وأنت تقرأها عليّ، فانظر غدا من يقرأها عليك؟ »
بين مازيار وأفشين
قال: ثم قدّم مازيار صاحب طبرستان. فقالوا للأفشين:
« تعرف هذا؟ »
قال: « لا. » قالوا: « هذا المازيار. » قال: « نعم قد عرفته الآن. » قالوا: « هل كاتبته؟ » قال: « لا. » قالوا لمازيار:
« هل كتب إليك؟ » قال: « نعم كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغير أخيك وأنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلّا أن دلّاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي من الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجّهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلّا ثلثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبّوس، وهؤلاء الذباب يعنى المغاربة إنّما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين - يعنى الأتراك - فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتى على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيّام العجم. » فقال الأفشين:
« هذا يدّعى على أخي وأخيه ودعوى لا تجب عليّ، ولو كتبت هذا الكتاب لأستميله إليّ وليثق بناحيتى لكان غير مستنكر، لأنى إذا نصرت الخليفة بيدي لكنت بالجملة أحرى أن أنصره لآخذ قفاه وآتى به الخليفة فأحظى به عنده كما حظى عبد الله بن طاهر بمجيء المازيار. »
بين ابن أبي دؤاد والأفشين
ولمّا قال الأفشين لمازيار ما قال وقال لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ما قال زجر ابن أبي دؤاد الأفشين. فقال له الأفشين:
« أنت يا با عبد الله لا ترفع طيلسانك بيدك ولا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة. » فقال له ابن أبي دؤاد:
« أمطهّر أنت؟ » قال: « لا. » قال: « فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة؟ » قال: « أو ليس في دين الإسلام استعمال التقيّة؟ » قال: « بلى. » قال: « فإنى خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت. » قال: « أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع غلفة. » قال: « تلك ضرورة أدفع إليها فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلم آمن معه خروج نفسي ولم أعلم أنّ في تركها خروجا من الإسلام. » فقال ابن أبي دؤاد:
« قد بان لكم. » ثم التفت إلى بغا الكبير وكان الأفشين تابعا له. فقال:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)