









رواية أخرى في ذلك
وقد حكى في رواية أخرى: أنّ نزار وسنجان كانا متباغضين متحاسدين، وخصّ به نزار فحسده سنجان، فظهر ذلك لنزار، فجعل يوغر صدر يزدجرد ويسعى في قتله، ولم يزل يغرى يزدجرد بسنجان حتى عزم على قتله، وأفشى ما كان عليه عزم من ذلك إلى امرأة من نسائه كان نزار واطأها. فأرسلت إلى نزار تبشّر بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا الحديث وبلغ سنجان.
فجمع جموعا وتوجّه نحو القصر الذي فيه يزدجرد، وبلغ ذلك نزار، فنكص عن سنجان لكثرة جمعه، وأرعب ذلك يزدجرد. فخرج ذاهبا على وجهه راجلا ينجو بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حتى وقع إلى رحى من ماء، فدخل بيت الرحى، فجلس فيه كالّا لغبا، فرآه صاحب الرحى ذا هيئة، وطرّة، وبزّة كريمة. ففرش له وأتاه بطعام. فطعم ومكث عنده يوما وليلة. فسأله صاحب الرحى أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقته، وكانت مكلّلة بجوهر. فأبى صاحب الرحى أن يقبلها وقال: « إنما يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم آكل بها وأشرب ».
فأخبره ألّا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحى حتى إذا أغفى، قام إليه بفأس، فضرب بها هامته، فقتله، وأخذ ما كان عليه من ثياب وحليّ، وألقى جيفته في النهر وبقر بطنه، فأدخل فيه من أصول طرفاء كانت نابتة على النهر ليحبس جثته في الموضع الذي ألقاها فيه، فلا ينتقل فيعرف ويطلب وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه.
وبلغ قتل يزدجرد رجلا من الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له: إيليا، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال:
« إنّ ملك الفرس قتل وهو ابن شهريار بن كسرى وإنّما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها وكانت بنت قيصر. ثم لهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جدّه من الشرف، حتى بنى لهم البيع، وشدّ ملّتهم، فينبغي أن نجزى هذا الملك بقدر طاقتنا من الكرامة، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا وأحمل جثّته في كرامة، حتى أجعلها فيه. »
فقال النصارى: « أمرنا لأمرك تبع. » فأمر المطران، فبنى له في جوف بستانه بمرو ناووس، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد، وكفّنها في تابوت، وحمله ومن كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس، وواروه فيه، وردموا بابه.
وقيل: بل حمله إلى إصطخر فوضع في الناووس هناك. وذلك في سنة إحدى وثلاثين للهجرة.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة منها أربع سنين في دعة وستّ عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه، ومحنته بهم، وغلظتهم عليه. وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب.
ما جرى في خلافة عثمان مما تستفاد منه تجربة
وقد كنّا ذكرنا ما يجب ذكره من خلافة عثمان - رضي الله عنه - وما تمّ منه على الوجه الذي اقتصصناه.
ثم جرى بعد ذلك مما تستفاد منه تجربة أنّ قوما من المسلمين أنكروا منه أشياء، فكانوا يتذاكرونها بينهم، وذلك بالعراق خاصّة وبالمدينة دون غيرهما. ثم انتشر منهم طائفة في سائر الأعمال ينعون على عثمان أمورا ويشنّعون عليه.
فسيّر عثمان منهم نفرا إلى الشام ليذلّهم بمعاوية، وجرى لهم معه خطب طويل. ثم تكاتبوا بعد ذلك، وجميع ذلك شبيه بالسرّ.
إلى أن شرب الوليد بن عقبة، وهو وال على الكوفة خمرا وشهد عليه به من لم يمكن ردّ شهادته، فاستقدمه عثمان المدينة وجلده الحدّ، وردّ مكانه سعيد بن العاص، فورد سعيد، وأمر بغسل المنبر من مقامه، فكلّمه في ذلك قوم من قريش، فأبى عليهم، وغسل الموضع ودارى الناس، فلم يتمّ له ما أراد، وشغّب عليه الناس.
ثم أجمع رأى الناس على أن يبعثوا إلى عثمان رجلا يكلّمه ويخبره بأحداثه.
فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس التيمي، وكان يعدّ من النسّاك. فأتاه فدخل عليه فقال: « إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله، وتب إليه، وانزع عنها. » فقال عثمان: « انظروا إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ، ثم يجئ فيكلّمنى في المحقّرات ويزعم أنها عظائم، فوالله ما يدرى أين الله. » قال عامر: « أنا لا أدري أين الله؟ » قال: « نعم، والله لا تدرى أين الله. » قال عامر: « بلى والله، إني لأدرى أنّ الله لك لبالمرصاد. » فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص وأمثالهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه. فلما اجتمعوا عنده قال: « إنّ لكل امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم وزرائى ونصحائى وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّالى وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون. فاجتهدوا لي رأيكم ثم أشيروا عليّ. » فقال عبد الله بن عامر: « رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبر دابّته وقمل فروته. » ثم أقبل على سعيد بن العاص فقال: « ما رأيك؟ » قال: « يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنّا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل، واعمل برأيي. » قال: « وما هو؟ » قال: « إنّ لكلّ قوم قادة متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر. » فقال عثمان: « إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. » ثم أقبل على معاوية، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « رأيي يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لما قبلي. » ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « يا أمير المؤمنين، الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.
ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإنّك قد ولّيت الناس بني أمية وحملتهم على أرقابهم، فاعتزل، فإن أبيت فامض قدما. » فقال له عثمان: « مالك، قمل فروك مذ عزلتك، أهذا الجدّ منك؟ » فسكت عنه عمرو حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: « لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ عليّ من ذلك، ولكن قد علمت أنّ الناس قد علموا أنّك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كلّ رجل منّا. فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي لأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا. » فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
وردّ سعيد بن العاص أميرا على الكوفة.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني










أهل الكوفة يردون سعيد بن العاص
فخرج أهل الكوفة عليهم السلاح يقدمهم مالك بن الحارث الأشتر، فتلقّوه وردّوه وقالوا: « لا، والله، لا تلى علينا حكما، ولا تدخلها علينا ما حملنا سيوفنا. » فرجع سعيد وقال للناس: « أما اختلفتم إلّا لي؟ إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وتضعوا لي رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل؟ » ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره الخبر.
فقال عثمان: « ما يريدون، أخلعوا يدا عن الطاعة؟ » قال: « أظهروا أنّهم يريدون البدل. » قال: « فمن يريدون؟ » قال: « أبا موسى. » قال: « أثبتنا أبا موسى عليهم. والله لا نجعل لأحد منهم عذرا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصيرنّ كما أمرنا حتى يبلغ الله ما يريد. » وكان يزيد بن قيس لما استغوى الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر قبيح لعثمان. فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه.
فقال: « ما تريد يا قعقاع، ألك علينا في أن نستعفى سبيل؟ » قال: « وهل إلّا ذاك؟ » قال: « لا. » وإنما قال ذلك لما لم يتمّ له جميع ما يريد - فقال له القعقاع: « فأمسك عن الكلام واستعف كيف شئت. »
كثر الناس على عثمان وكلموا عليا فيه
فلما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول اللهبعضهم إلى بعض أن: « اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد. » وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون، ليس منهم أحد يذبّ ولا ينهى.
فاجتمع الناس فكلّموا عليّ بن أبي طالب،. فدخل عليّ على عثمان فقال:
« إنّ الناس ورائي، وقد كلّمونى فيك، وو الله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه وما خصصنا بأمر دونك. قد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللهونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك، ولا ابن الخطّاب بأولى بشيء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله
رحما. فالله الله في نفسك. فإنّك والله ما تبصّر من عمى ولا تعلّم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة. تعلم يا عثمان، أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدى، واستقام وأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة معلومة. فوالله إنّ كلّا لبيّن، وإنّ السنن لقائمة لها أعلام، وإنّ البدعة لقائمة لها أعلام. وإني أحذّرك الله وسطوته ونقماته، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمّة الذي سمعنا به، فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح به عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس عليهم أمورهم، ويتركهم شيعا لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا. » قال عثمان: « قد والله علمت أنّك تقول [ الذي قالوه ] أما والله لو كنت بمكاني ما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، وإني ما جئت منكرا إن وصلت رحما، وسددت خلّة، وأويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان يولّى عمر.
أنشدك الله يا على، هل تعلم أنّ مغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: « نعم. » قال: « فتعلم أنّ عمر ولّاه. » قال: « نعم. » قال: « فلم تلومني أن ولّيت عبد الله بن عامر في رحمه وقرابته؟ » قال عليّ: « سأخبرك. إنّ عمر كان كلّ من ولّى فإنّما يطأ على صماخه، إن بلغه حرف خلعه، ثم بلغ أقصى الغاية، وأنت لا تفعل. ضعفت ورققت على أقربائك. » قال عثمان: « هم أقرباؤك أيضا. » قال عليّ: « أجل. لعمري إنّ رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم. » قال: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها، فقد ولّيته. » قال علي: « أنشدك الله، هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر، من يرفأ غلام عمر، منه؟ » قال: « نعم. » قال عليّ: « فإنّ معاوية يقطع الأمر دونك، وأنت تعلم، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك، فلا تغيّر على معاوية. »
ثم خرج عليّ من عنده وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فقال:
أما بعد، فإنّ لكلّ شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون يرونكم ما تحبون ويسرّون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا تبرّضا ولا يردون إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، قد أعيتهم الأمور، وتعذّرت عليهم المكاسب، ألا! والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، ووطّأت لكم كنفى، وكففت يدي ولساني، فاجترأتم عليّ. أما والله، لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا وأقمن. إن قلت: هلمّ، أتى إليّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم [ منّى ] خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به. فكفّوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فقد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا، فما تفقدون من حقّكم. والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال. فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما؟ »
فقام مروان بن الحكم فتكلّم، فقال عثمان: « اسكت لا سكتّ، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا، ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق بحرف؟ » فسكت مروان ونزل عثمان.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين فيها كان ظهور السبائية وخروج أهل مصر إلى المدينة لقتل عثمان
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبا كان يهوديّا من أهل صنعاء، وأمّه سوداء.
فأسلم أيام عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول بدعة. فبدأ بالحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام. فلم يجتمع له أمر على ما يريد، فمضى نحو مصر. فلمّا أتاها، قال لأهلها في ما يقول: « أنا أعجب ممن يصدّق بأنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمدا لا يرجع، وقد قال الله: « إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد. » فمحمد أحقّ بالرجوع. » فوضع لهم الرجعة.
ثم قال: « ما من نبي إلّا وله وصيّ، وعليّ وصيّ محمّد. »
ثم قال: « من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول اللهووثب على حقّ ليس له، وتناول [ أمر ] الأمة؟ » ثم قال: « هذا عثمان قد غصب عليّا، وغيّر وبدّل، وكان وكان، فانهضوا في الأمر، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واطعنوا على أمرائكم تجدوا مقالا، وادعوا إلى هذا الأمر. » وبثّ دعاة في الأمصار، وكاتب من استفسده في الأمصار وكاتبوه. ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، وتكاتب أهل الأمصار، حتى أوسعوا الأرض إذاعة، وتناولوا المدينة.
فدخل قوم على عثمان، فقالوا: « يا أمير المؤمنين، أيأتيك ما يأتينا؟ » قال: « لا، ما جاءني إلّا السلامة. » قالوا: « فإنّا قد أتانا كيت وكيت. » قال: « فأشيروا عليّ. » قالوا: « نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم. » فدعا جماعة من وجوه الصحابة فيهم عمار بن ياسر، فأرسل أحدهم إلى الكوفة، وأرسل آخر إلى البصرة، وأرسل عمارا إلى مصر، وأرسل ابن عمر إلى الشام، وفرّق الباقين في البلاد. فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا: « أيها الناس، ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين، ولا عوامّهم، والناس ساكتون قارّون. » فاستبطأ الناس عمّارا، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله بن أبي سرح يخبرهم: أنّ عمارا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وسودان بن حمران، وفلان وفلان.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: « أما بعد، فإني آخذ العمّال بموافاتي في كلّ موسم، فاقدموا عليّ. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني










فقدم عليه عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد، وأدخل في المشورة سعدا وعمرا. فقال: « ويحكم! ما هذه الشكاة، وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بي. » فقالوا: « لا والله، ما صدقوا ولا برّوا، ولا يجلّ الأخذ بها، والانتهاء إليها. » قال: « فأشيروا عليّ. » قالوا: « هذا أمر يصنع في السرّ، ثم يلقى إلى غير ذي المعرفة، فيخبر به، فيتحدّث به الناس في مجالسهم. » قال: « فما دواء ذلك؟ » قالوا: « طلب هؤلاء القوم، ثم قتل الذين يخرج هذا من عندهم. » وقال معاوية: « ولّيتنى، فولّيت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير. » قال: « فما الرأي؟ » قال: « حسن الأدب. » قال: « فما ترى يا عمرو؟ » قال: « أرى أنك قد لنت لهم، وأرخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تصنع كما كان يصنع عمر. » فتكلّم عثمان بكلام ليّن ونفّر، فشخص معاوية وعبد الله بن سعد، ورجع ابن عامر وسعيد معه، وردّ سائر الأمراء إلى أعمالهم.
وكان معاوية قد قال لعثمان غداة ودّعه: « يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشام على الأمر، لم يزولوا. » فقال: « أنا أبيع جوار رسول اللهوإن كان فيه قطع خيط عنقي؟ » قال: « فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهرانيّ أهل المدينة لنائبة إن نابت. » قال: « أنا أقتّر على جيران رسول الله
الأرزاق بجند يساكنهم وأضيّق على دار الهجرة والنصرة! » قال: « والله يا أمير المؤمنين لتقاتلنّ، ولتغزينّ. » قال: « حسبي الله ونعم الوكيل. » فقال معاوية: « يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! » ثم خرج.
ثم إنّ السبائية كاتبوا أهل الأمصار أن يتوافوا المدينة لينظروا في ما يريدون، وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء لتطير في الناس، ولتحقّق عليه. فتوافوا المدينة، وأرسل عثمان رجلين فقال: « انظرا ما يريدون، واعلما علمهم. » فأتياهم وداخلاهم حتى أمنوهما، فأخبروهما بما يريدون، فقالا: « من معكم من أهل المدينة؟ » قالوا: « ثلاثة نفر. » قالا: « [ فهل إلّا؟ ] » قالوا: « لا. » قالا: « فكيف تريدون أن تصنعوا؟ » قالوا: « نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنقول: إنّا قرّرناه بها. فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج بعد ذلك كأنّا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنختلعه، فإن أبي قتلناه فكانت إيّاها. » فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال: « اللهم سلّم هؤلاء النفر، أما عمّار فحمل عليّ ذنب غيري وعركه بي، وأمّا محمد بن أبي بكر، فإنه رجل معجب يرى أنّ الحقوق لا تلزمه، وأما ابن [ سهله ] فإنّه يتعرض للبلاء. » ثم خطب عثمان، فجمع أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، وخبّرهم بما جاء به الرجلان، واعتذر مما تجنى الناس عليه، واستشارهم. فأشار قوم بقتلهم، ولان عثمان، فأبى أولئك إلّا قتلهم، وأبي إلّا تركهم. فرجعوا إلى بلادهم وفي نيّاتهم أن يغزوه مع الحجّاج كالحجّاج. فتكاتبوا وقالوا: موعدهم في ضواحي المدينة في شوال. فلمّا كان ذلك الوقت اجتمعوا، فنزلوا قرب المدينة - وذلك سنة خمس وثلاثين - وعدّتهم ألفا رجل، ينقصون قليلا أو يزيدون، من أهل البصرة والكوفة. وخرج أهل مصر ومعهم ابن السوداء، وكنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وفي أهل الكوفة زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وفي أهل البصرة حكيم بن جبلة وبشر بن شريح وأميرهم حرقوص بن زهير، ثم تلاحق بهم الناس.
فأمّا أهل مصر فإنّهم كانوا يشتهون عليّا، وأمّا أهل البصرة فإنّهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنّهم كانوا يشتهون الزبير. وكان خروجهم جميعا، وقلوبهم شتى في من يختارون، ولا تشكّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة، فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر وتركوا عامّتهم بذي المروة، وقالوا: « لا تعجلوا ولا تعجلونا! حتى ندخل المدينة ونرتاد، فإنّه بلغنا أنّهم قد عسكروا لنا. فوالله إن كان أهل المدينة استحلّوا قتالنا، وهم لم يعلموا علمنا لهم إذا علموا علمنا أشدّ، وإنّ أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلّوا قتالنا، ووجدنا الذي بلغنا باطلا لنرجعنّ إليكم بالخبر. » قالوا: « فاذهبوا! » فدخل رجلان، فلقيا أزواج النبيوطلحة، والزبير، وعليّا، وقالوا: « إنّما نؤمّ هذا البيت، ونستعفى هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك. » [ واستأذناهم ] للناس بالدخول، فكلّهم أبي ونهى.
فاجتمع قوم من أهل مصر، فأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة، فأتوا الزبير.
فأما المصريّون فانّهم لما أتوا عليّا وجدوه في عسكر عند أحجار الزيت، فسلّم المصريّون على عليّ وعرّضوا، فصاح بهم، وطردهم، وقال: « ارجعوا لا صحبكم الله. » فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى حيث هو، وقد أرسل ابنيه إلى عثمان. فسلّم البصريّون عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وطردهم، وقال قريبا مما قال عليّ.
وأتى الكوفيّون الزبير وهو في جماعة وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلّموا عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وقال مثل ما قال صاحباه.
فانصرف القوم إلى عساكرهم وهي على ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرّوا راجعين. فافترق أهل المدينة وكرّوا راجعين. فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم. وأحاطوا بعثمان وقالوا: « من كفّ يده فهو آمن. » وصلّى عثمان بالناس أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا من الكلام.
فأتاهم الناس فكلّموهم وفيهم عليّ. فقال: « ما ردّكم بعد ذهابكم؟ » قالوا: « أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا. »
وأتاهم طلحة، فقالوا له مثل ذلك. وأتاهم الزبير فقالوا له مثل ذلك. وأجمعوا على أن يعتزل عثمان، وهو في ذلك يصلّى بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى عثمان من شاء وهم في عينه أدقّ من التراب.
وكتب إلى أهل الأمصار يستمدّهم، ويشكو ما يلقى، بكتاب بليغ. فأتاهم الكتاب، وخرجوا على الصعب والذلول. فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج السكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان بالكوفة جماعة يحضّضون على إغاثة أهل المدينة مثل حنظلة بن الربيع وأشباهه من أصحاب النبيفكانوا يطوفون على مجالسها ويقولون: « يا أيها الناس، إنّ الكلام اليوم وليس به غدا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدا، انهضوا إلى نصرة خليفتكم. » وقام بالبصرة عمران بن الحصين وأنس بن مالك في أمثالهما من أصحاب النبي
يقولون مثل ذلك، وقام بالشام عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء في أمثالهما من أصحاب النبي
يقولون مثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له.
ولما جاءت الجمعة التي [ على ] أثر [ نزول ] المصريّين مسجد الرسول خرج عثمان، فصلّى بالناس، ثم قام على المنبر، فقال: « الله الله يا معشر الغزّى! فامحوا الخطأ بالصواب. »
فقام محمد بن مسلمة فقال: « أنا أشهد بذلك. » فأخذه حكيم بن جبلة، فأقعده.
فقام زيد بن ثابت، فقال: « أبغنى الكتاب. » فثار إليه محمد بن أبي بكر فنتره وأقعده وقال: « اقطع! » وقام الناس بأجمعهم ثائرين بأهل المدينة، فحصبوهم، حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فاحتمل وأدخل داره.
وكان المصريّون لا يطمعون في مساعدة أحد من أهل المدينة إلّا في ثلاثة فإنّهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.
وسار ناس مستقتلين منهم: سعد بن مالك، والحسن بن عليّ، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا، فانصرفوا.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني










وأقبل عليّ وطلحة والزبير حتى دخلوا على عثمان يعودونه من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم. وكان الناس قبل ذلك وافقوه على أشياء وجد فيها اعتذارا، وعلى أشياء لم يجد فيها مقالا، فقال: « أستغفر الله وأتوب إليه. » وأخذوا ميثاقه وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألّا يشقّوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم.
ثم قالوا: « نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنّما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد. »
فرضوا، وأقبلوا معه حتى خطب عثمان، وقال: « ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحلب، ألا! إنّه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد. » فغضب الناس وقالوا: « هذا مكر بني أمية. »
راكب له شأن
ورجع وفد المصريين راضين، فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض، فمرّة يرونه، ومرّة يغيب عنهم، فقالوا: « إنّ لهذا الرجل لشأنا. » فأخذوه، وقرّروه، فقال: « أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. » ففتشوه فإذا هم بكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر، قد جعل في إداوة [ يابسة ] يأمر بأن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يصلبهم.
فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا: « ألم تر إلى عدوّ الله! إنّه كتب فينا بكذا وكذا، بعد الميثاق الذي بيننا وبينه، وإنّ الله قد أحلّ لنا دمه، قم معنا إليه. » قال: « والله لا أقوم معكم! » قالوا: « فلم كتبت إلينا؟ » قال: « والله ما كتبت إليكم كتابا قطّ. » فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: « ألهذا تقاتلون؟ أم لهذا تغضبون؟ » فخرج عليّ من المدينة إلى قرية، وانطلق القوم حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: « كتبت فينا بكذا وكذا. » فقال عثمان: « إنّما هما ثنتان: إمّا أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله، الذي لا إله إلّا هو، ما كتبت، ولا أمللت، ولا علمت. وقد علمتم أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم. » فقالوا: « لئن كنت كاذبا في يمينك فقد أحلّ الله دمك، ولئن كنت صادقا لقد ضعفت عن الأمر، حين لا تضبط من أمرك هذا المقدار. » وقد حاصروه، وقد ذكر الناس في هذه الروايات أشياء شنعة لم نذكرها.
وقد كان عثمان لما أحسّ بانصراف المصريين إليه من الطريق، أتى عليّا في منزله، فقال: « يا ابن عمّ! إنّه ليس منزل، وإنّ قرابتي قريبة، ولى حقّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبّحيّ، وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرا، وأنّهم يستمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم، فتردّهم عني. فإني لا أحبّ أن يدخلوا عليّ، فإنّ تلك جرأة منهم عليّ، ويسمع بذلك غيرهم. » فقال عليّ: « على م أردّهم؟ » قال: « على أن أصير إلى ما أشرت به عليّ، ورأيته لي، ولست أخرج من يديك. » فقال عليّ: « إني قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرّة، وكل ذلك تخرج فتتكلّم وتقول وتقول، وذلك كلّه فعل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، ومعاوية، تطيعهم وتعصينى. » قال: وأمر الناس المهاجرين والأنصار، فركبوا معه. وأرسل عثمان إلى عمار بن ياسر، فكلّمه أن يركب مع عليّ، فأبى. ومضى عليّ في المهاجرين والأنصار، وهم ثلاثون رجلا. فكلّمهم عليّ ومحمد بن مسلمة حتى رجعوا.
فلما رجع عليّ إلى عثمان وأعلمه أنهم رجعوا، وكلّمه عليّ كلاما كان في نفسه، وخرج إلى بيته، مكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان بن الحكم، فقال له: « تكلّم، وأعلم الناس أن أهل مصر علموا أنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا، وقد رجعوا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم، فيأتيك أمر لا تستطيع دفعه. » [ فأبى ] عثمان، ولم يزل به مروان حتى خرج، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فإنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما تيقّنوا أنه باطل رجعوا إلى بلادهم. » فقال له عمرو بن العاص: « اتق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك. » فناداه عثمان: « وإنّك هناك يا ابن النابغة قملت جبّتك منذ عزلتك عن العمل. » فنودي من ناحية أخرى: « أظهر التوبة يا عثمان يكفّ الناس عنك. » ونودى من ناحية اخرى بمثل ذلك.
فرفع عثمان يده واستقبل القبلة، فقال: « اللهمّ إني أول تائب إليك. »
ورجع إلى منزله.
ثم إنّ عليّا جاءه، فقال له: « تكلّم كلاما يسمعه الناس عامّة ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن ركبا آخر يقدمون من الكوفة أو البصرة، فتقول لي: اركب إليهم، فلا أركب، ولا أسمع لك عذرا، وتراني قد قطعت رحمك واستخففت بحقّك. »
فخرج عثمان، فخطب الخطبة المشهورة التي يقول فيها:
« إني نزعت وتبت مما فعلت، إذ التوبة خير من التمادي في الهلكة، والله أيها الناس، لئن ردّني الحق عبدا، لأذلّنّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن عتق شكر. فليأتنى وجوهكم. فوالله لأنزلنّ عند رأيكم، ولأنتهينّ إلى حكمكم. » فرقّ له الناس وبكى من بكى منهم، وعلت الأصوات بالنشيج.
فقال له سعيد بن زيد: « اتقّ الله يا أمير المؤمنين في نفسك، وأتمم على ما قلت. » فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان، وسعدا، ونفرا من بني أمية لم يشهدوا الخطبة. قال مروان: « يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أصمت؟ » فقال بعض أهله: « لا، بل اصمت، فأنتم والله قاتلوه، إنّه قال مقالة مشهورة لا ينبغي أن ينزع عنها. » فأقبل عليها مروان بكلام قبيح إلى أن سكّتها عثمان. ثم قال مروان: « أتكلّم، أم أصمت؟ » قال: « بل تكلّم. » فقال مروان: « بأبي وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع، وكنت أول من رضى بها، وأعان عليها، ولكنّك قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وحين أعطى الخطّة الغليظة الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر منها، أجمل من توبة تجبر عليها، وقد اجتمع بالباب مثل الجبل من الناس. » فقال عثمان: « فاخرج إليهم، فكلّمهم، فإني أستحى أن أكلّمهم. » فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال: « ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب، كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه، شاهت الوجوه، ألا، من أريد؟ جئتم أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنّا، أما والله لئن رمتمونا لتلقون ما لا يسرّكم ارجعوا، فوالله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. » فرجع الناس إلى عليّ يشكون إليه. فجاء عليّ مغضبا حتى دخل على عثمان، فقال: « أما رضيت من مروان ولا رضى منك، إلّا بإخراجك عن دينك وعقلك، مثل جمل الظعينة، يقاد حيث شاء ربّته؟. والله ما مروان بذي رأى في دينه، ولا في نفسه، وإني لأراه سيوردك ولا يصدرك، وما أنا بعائد بعد هذا لمعاتبتك، فقد أكثرت وأكثرت. أذهب شرفك وغلبت على أمرك. » فلما خرج عليّ دخل إليه بعض أهله فقال: « إني سمعت قول عليّ لك، وإنه ليس يعاودك، فقد خالفته مرارا وأطعت مروان. »
قال: « فما أصنع؟ » قال: « تتقي الله وحده وتطيعه يرشدك، فإنّ مروان ليس له عند الناس قدر، ولا هيبة، ولا محبّة، وأراه سيقتلك، فأرسل إلى عليّ واستصلحه، فإنّه يعطف عليك ولا يعصى، وقوله مقبول. » فأرسل عثمان إلى عليّ، فأبى أن يأتيه وقال: « قد أعلمته أنّى غير عائد إليه. » ومكث عثمان لا يخرج ثلاثة أيام حياءا من الناس. ثم ذهب عثمان بنفسه حتى أتى عليّا في منزله ليلا، وجعل يقول: « إني غير عائد، وإني فاعل، وإني فاعل. » فقال له عليّ: « أبعد ما تكلّمت به على منبر رسول اللهوأعطيت من نفسك، وبكيت حتى اخضلّت لحيتك بالدمع، وأبكيت الناس، ودخلت منزلك. وخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك، ويتلقّاهم بما يكرهونه؟ » وانصرف من عند عليّ، ولم يزل عليّ متنكّبا عنه، لا يفعل ما كان يفعل، إلّا أنّه لما منع الماء وحصر امتعض له وغضب غضبا شديدا، وكلّم طلحة وغيره حتى دخلت الروايا إلى عثمان.
ولما رأى عثمان ما نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية، وهو بالشام. يسأله أن يبعث له مقاتلة الشام على كلّ صعب وذلول. فلما جاء معاوية كتابه تربّص، وكره إظهار مخالفة أصحاب النبيفلمّا أبطأ نصره على عثمان كتب إلى أهل الشام يستنفرهم، ويعظّم حقّه، ويذكر أمر الخلفاء، وما أمر الله به من طاعتهم ويقول: « والعجل، العجل، فإنّ القوم معاجليّ. » فقام قوم يحضّضون على نصره، وانتدب خلق كثير.
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بالبصرة: أن اندب إليّ أهل البصرة، وكتب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى الشام. فقامت الخطباء من أهل البصرة بحضرة عبد الله بن عامر يحضّون على نصر عثمان، وعلى المسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود، وهو يومئذ سيّد قيس في البصرة. فتسارع الناس، وكان أشار مروان على عثمان بمقاربة من حوله من أهل مصر وغيرهم حتى يقوى، وقال له: « أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، وأرسل إلى عليّ يكلّمهم. » فراسل عليّا وقال: « إنّ الأمر بلغ القتل، فاردد الناس عني، فإنّ الله لهم أن أعتبهم من كلّ ما يكرهون، وأعطيهم الحقّ من نفسي وغيري، وإن كان في ذلك سفك دمى. » فراسله عليّ بأنّ: « الناس إلى عدلك! أحوج منهم إلى قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون إلّا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في المرة الأولى من العهود ما نقضته، ولم تف به لهم. » فقال عثمان: « أعطهم اليوم ما يحبّون، فوالله لأفينّ. » فخرج عليّ إلى الناس، فقال: « أيها الناس! إنّكم إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه. إنّ عثمان يزعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه. » قال الناس: « قد قبلنا، فاستوثق لنا، فإنّا لا نرضى بقول دون فعل. » فقال عليّ: « ذلك لكم. » وأخبر عثمان الخبر، فقال عثمان: « اضرب بيني وبينهم أجلا تكون لي فيه مهلة، فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد. » فقال عليّ: « ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب، فأجله وصول أمرك. » قال: « نعم، ولكن أجّلنى في ما في المدينة ثلاثة أيام. » فقال عليّ: « نعم. » فخرج عليّ، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا على الأجل، شرط فيه أن يردّ كل مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهه المسلمون، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد أو ميثاق، وأشهد ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار. فكفّ المسلمون عنه، ورجوا أن يفي لهم بما أعطاهم.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)