









هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبي ص، وأنت إذا تفقدت السند وجدته غير صحيح لجهالة الهمداني، وإذا تأملت المتن لم تجده منكرا ولا فيه ما يمكن أن يتهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس، فإنه لم يذكر أن النبي ص دعا له وذكر أنه لم يمسح رأسه. ولذلك قال بعضهم: قد علم الله تعالى حاله فحرمه بركة يد النبي ص ودعائه. أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي ص حجر محجور؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الأخنائي (ص163): (فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله ص، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه).
قد ينفر بعض الناس من لفظة (العصمة) وإنما المقصود أن الله عز وجل وفاءً بما تكفل به من حفظ دينه وشريعته هيأ من الأسباب ما حفظهم به وبتوفيقه سبحانه من أن يتعمد أحد منهم الكذب على رسول الله.
فإن قيل: فلماذا لم يحفظهم الله تعالى من الخطأ؟ قلت: الخطأ إذا وقع من أحد منهم فإن الله تعالى يهيئ ما يوقف به عليه، وتبقى الثقة به قائمة في سائر الأحاديث التي حدث بها مما لم يظهر فيه خطأ؛ فأما تعمد الكذب فإنه إن وقع في حديث واحد لزم منه إهدار الأحاديث التي عند ذاك الرجل كلها، وقد تكون عنده أحاديث ليست عند غيره. راجع (ص20-21)
هذا وفي كتاب أبي رية (ص42-53) كلام أخرت النظر فيه إلى هنا كما أشرت إليه (ص52) من كتابي هذا. قال (ص42) (الكذب على النبيقبل وفاته…).
199ثم ذكر ما روي عن ابن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب قال: «كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم رجل وعليه حلة، فقال: إن رسول اللهكساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى -وكان قد خطب منهم امرأة [في الجاهلية] فلم يزوجوه- فانطلق [حتى نزل] على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله
. فقال: كذب عدو الله، ثم أرسل رجلًا. فقال: إن وجدته حيًا [ولا أراك تجده] فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتًا فحرقه بالنار».
أقول: عزاه إلى أحكام ابن حزم، ومنه أضفت الكلمات المحجوزة، وانظر لماذا أسقطها أبو رية؟ ورواية عن ابن بريدة صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة، وفي السند غيره، وقد رويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كل منها ضعف. راجع مجمع الزوائد (1: 145). وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردوه، فلما أسلم أهلها سولت له نفسه أن يظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكن من الخلوة بها ثم يفر، إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أنه ليس بينه وبين النبي ص سوى ميلين، فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله ص، فرأوا أن ينزلوا الرجل محترسين منه، ويرسلوا إلى النبي ص يخبرونه. وقوله صص («ولا أراك تجده») ظنًا منه أن عقوبة الله عز وجل ستعاجل الرجل. وكذلك كان كما في الطرق الأخرى، وجده الرسول قد مات، وفي رواية: (خرج ليبول فلدغته حية فهلك).
وحدوث مثل هذا لا يصلح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبيغير متهم بالنفاق ثم استمر على الإسلام بعد وفاة النبي
. يراجع (ص193) فما بعدها، وتعجيل العقوبة القدرية لذلك الرجل يمنع غيره من أن تحدثه نفسه بكذب على النبي
في حياته، وكذا من باب أولى بعد وفاته، فإن العقوبة القدرية لم تمهل ذاك مع أنه كان بصدد أن تناله العقوبة الشرعية، ولا يترتب على كذبه مفسدة، ولهذا جاء في رواية أن الصحابي بعد ص ذكر حديثًا فاستثبته بعض الناس فحدث بالقصة ثم قال: (أتراني كذبت على رسول الله ص بعد هذا)؟ وذكر أبو رية خبر المقنع التميمي، ويقال: المنقع، وسنده واهٍ جدًا يشمل على مجاهيل وضعفاء فلا أطيل به، هذا ومن الحكمة في اختصاص الله تعالى أصحاب رسوله بالحفظ من الكذب عليه أنه سبحانه كره أن يكونوا هدفًا لطعن من بعدهم؛ لأنه ذريعة إلى الطعن في الإسلام جملة. وليس هناك سبب مقبول للطعن إلا أن يقال: نحن مضطرون إلى بيان أحوالهم ليعرف من لا يحتج بروايته منهم، فاقتضت الحكمة حسم هذا لقطع العذر عمن يحاول الطعن في أحد منهم.
وقال (ص43): (الكذب على النبي ص بعد موته… فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته…).
أقول: قد كان كذب، لكن متى؟ وممن؟ لا شأن لنا بدعاوى أبي رية، وإنما ننظر في شواهده:
200ذكر قصة بُشير (بالتصغير) ابن كعب العدوي مع ابن عباس في مقدمة صحيح مسلم وجعلها قصتين، وإنما هي روايتان. وبُشير هذا غير بشير (بفتح فكسر) ابن كعب بن أبي الحميري العامري الذي شهد اليرموك، بل هذا أصغر منه بكثير، وأخطأ من عدهما واحدًا، راجع الإصابة. وهذا عراقي بصري له قصة مع عمران بن حصين في الحياء تدل أنه كان يقرأ صحف أهل الكتاب، وقصته مع ابن عباس يظهر أنها كانت حوالي سنة ستين، فإن ابن عباس توفي (سنة 68) أو بعدها، وعاش بُشير بعد ابن عباس زمانًا.
روى مسلم القصة من طريق طاوس ومجاهد، وحاصلها أن بشيرًا جاء إلى ابن عباس فجعل يحدث: (زاد مجاهد: ويقول قال رسول الله ص. قال رسول الله ص) قال طاوس: فقال له ابن عباس: «عد لحديث كذا وكذا، فعاد له. ثم حدثه فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا. أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله ص إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه -وفي رواية طاوس هي أثبت من الأولى- قال: إنما كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله ص، فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول فهيهات) ولفظ مجاهد: فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي..؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول قال رسول الله ص ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
عرف ابن عباس أن بُشيرًا ليس بصحابي، ومع ذلك لم يدرك كبار الصحابة، ولعله مع ذلك لم يكن يعرف بالثقة، وفوق ذلك كان يرسل، لا جرم لم يصغ إلى أحاديثه. فأما استعادته بعضها فكأن المستعاد كان أحاديث يعرفها ابن عباس، فأراد أن يصححها لبُشير إن كان عنده فيها خطأ.
كانت القصة حوالي سنة ستين كما مر، وقد ظهر الكذب بالعراق قبل ذلك كما يؤخذ مما يأتي، وبُشير عراقي فليس في القصة ما يخدش في صدق الصحابة رضي الله عنهم، ولا ما يدل على ظهور الكذب بعد وفاة النبي بمدة يسيره، وقوله في إحدى روايتي طاوس: (تركنا الحديث عنه) يريد تركنا أخذ الحديث عنه إلا من حيث نعرف.
وذكر (ص44) ما في مقدمة صحيح مسلم أيضًا عن ابن أبي مليكة: «كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويخفي عني قال: ولد ناصح، وأنا أختار له الأمور اختيارًا وأخفي عنه، قال: فدعا بقضاء علي رضي الله عنه201فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي، إلا أن يكون ضل».
أقول: أورد مسلم بعد هذا: (عن طاوس قال: أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي…) ثم أورد: (عن ابن إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله أي علم أفسدوا) التف حول علي رضي الله عنه بالكوفة نفر ليس لهم علم ولا كبير دين، وذاك الكتاب جمع من حكاياتهم وحكايات غيرهم عن قضاء علي، وجيئ إلى ابن عباس بنسخة منه. وذكر مسلم أيضًا ونقله أبو رية عن المغيرة بن مقسم قال: (لم يكن يصدق على علي رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود).
وذلك أن ابن مسعود كان بالكوفة في عهد علي وبعده، فكان له أصحاب طالت صحبتهم له وفقهوا، فلما جاء علي إلى الكوفة أخذوا عنه أيضًا وكانوا أوثق أصحابه، وهذه الآثار إنما تدل على فشو الكذب بالكوفة بعد علي رضي الله عنه.










درجات الصحابة
وقال أبو رية (45) (درجات الصحابة…).
ثم قال (ص47): (رواية الصحابة بعضهم عن بعض، وروايتهم عن التابعين.. ).
وعاد يبدئ ويعيد لتأكيد تلك المكيدة الجهنمية التي سبق الكشف عنها (ص72-75، 82، 89-90، 109-110، 157، 171).
ثم قال (ص49) (نقد الصحابة بعضهم لبعض…).
أقول: ذكر أشياء معروفة مع أجوبتها في كتب الحديث، وحاصلها أن أحدهم كان إذا سمع من أخيه حديثًا يراه معارضًا لبعض ما عنده توقف فيه وظن أو جوز أن أخاه أخطأ، مع تبرئة بعضهم لبعض عن تعمد الكذب.
وذكر فيها (ص52) (ولما بلغها -يعني عائشة – قول أبي الدرداء: «من أدرك الصبح فلا وتر عليه. فقالت: لا، كذب أبو الدرداء، كان النبي ص يصبح فيوتر»).
أقول: الخبر في سنن البيهقي (2: 479) ولفظه فلا وتر له، وراويه عن أبي الدرداء وعائشة أبو نهيك الأزدي الفراهيدي، قال ابن القطان: (لا يعرف) يعني أنه مجهول الحال، ولا يخرجه عن ذلك ذكر ابن حبان له في الثقات، وفوق ذلك لا يعلم له إدراك لأبي الدرداء وعائشة، بل الظاهر عدمه فالخبر منقطع، ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي ص: (انتهى وتره إلى السحر). وعلى فرض صحة الحكاية فإنما قال أبو الدرداء من قبل نفسه لم يذكر رواية، فكلمة202(كذب) بمعنى (أخطأ) كما هو معروف عنه. راجع (ص51).
قال: (وقالت عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري: «ما علم أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله ص؟ وإنما كانا غلامين صغيرين».
أقول: ينظر في صحة هذا عنها، فقد كانا في مثل سنها أو أكبر منها، وكانا ممن يلزم النبي ص ولاسيما أنس.
قال: (وكانت عائشة ترد ما روي مخالفًا للقرآن).
أقول: راجع (ص14) لتعرف ما هو الخلاف الذي يقتضي الرد.
قال: (وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع وسوء الفهم).
أقول: كلهم بحمد الله كان صادقًا عندها.
ثم حكى عن أحمد أمين عن بعض الزيدية كلمة فيها أن الصحابة تكلم بعضهم في بعض وقاتل بعضهم بعضًا، ونحو هذا. والجواب عن ذلك مبسوط في كتب أهل العلم، وموضوعنا هنا بيان صدقهم في الحديث النبوي، وقد أثبتناه ولله الحمد.
قال: (وإنما اتخذهم العامة أربابًا بعد ذلك).
أقول: أما أهل السنة فلم يتخذوا أحدًا من الصحابة ربًا، وإنما أولئك غلاة أصحابك الشيعة، [61]
قال: (ومن أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه).
أقول: أنت وهواك، أما نحن فنقول: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
وذكر أبو رية (ص311) كلامًا للذهبي ذكر فيه ما حكى ابن وضاح قال (سألت يحيى بن معين عن الشافعي، فقال: ليس بثقة، ثم قال الذهبي: وكلام ابن معين في الشافعي إنما كان من فلتات اللسان بالهوى والعصبية، فإن ابن معين كان من الحنفية وإن كان محدثًا).
أقول: هذه من فلتات القلم، وقد برأ الله ابن معين من اتباع الهوى والعصبية، وإنما كان يأخذ بقول أبي حنيفة فيما لم يتضح له الدليل بخلافه، وعدم ميله إلى الشافعي كان لسبب آخر، وثمّ عللٌ تقدح في صحة هذه الكلمة (ليس بثقة) عنه، وقد أوضحتُ ذلك في التنكيل.
203ثم ذكر أبو رية (ص312-322) كلامًا للمقبلي، والمقبلي نشأ في بيئة اعتزالية المعتقد، هادوية الفقه، شيعية تشيعًا مختلفًا، يغلظ في أناس ويخف في آخرين، فحاول التحرر فنجج تقريبًا في الفقه، وقارب التوسط في التشيع، أما الاعتزال فلم يكد يتخلص إلا من تكفير أهل السنة مطلقًا، وكلامه هنا يدور حول قضايا الاعتزال: كالقدر، ونفي رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، والقول بخلق القرآن، والدفاع عن عمرو بن عبيد أحد قدماء المعتزلة، وهذه المسائل معروفة مدروسة، والمقبلي لم يسبر غورها، ولا حقق ما كان عليه الأمر في عهد النبي ص وأصحابه والتابعين بإحسان، فلذلك أخذ يلوم أحمد وينسبه إلى الإفراط في التشدد، ولعله لو علم ما علمه أحمد لنسبه إلى التسامح.
وذكر (ص315) ما روي عن أحمد في شأن ابن علية ومحمد بن هارون، والإمام أحمد وإن رجا المغفرة للأمين فلم يزد في ابن علية على إنكار قوله تنفيرًا للناس عن الباطل، واستمر أحمد على الرواية عن ابن علية، والاحتجاج به والثناء عليه بالثبت.
وذكر (ص316) مسألة الرؤية، فخلط بين رؤية النبي ص ربه ليلة الإسراء وهي التي أنكرتها عائشة ومن معها، وبين الرؤية في الآخرة.
وقال أيضًا: (لكن المحدثون لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام؛ لأنه غير صنعتهم).
أقول: بل أنت لم تعرف مقدار الخطأ في العقيدة الإسلامية الحقة، ولا عرفت غور القضايا المخالفة لها.
وقال (ص317): (وقال يحيى بن معين في عتبة بن سعيد بن العاص بن أمية: ثقة، وهو جليس الحجاج…. بل روى له البخاري ومسلم).
أقول: إنما هو عنبسة بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، له عند البخاري خبر واحد ذكره في الجهاد والمغازي مع روايته من طريق غيره، راجع فتح الباري (6: 30)، (7: 376)، وعند مسلم خبر واحد جاء ذكره فيه عرضًا والاعتماد هناك على رواية أبي قلابة الحرمي الثقة المأمون وذلك في قصة العرنيين، وقد أخرجها أيضًا من رواية غيرهما. هذا جميع ما لعنبسة في الصحيحين كما يعلم من ترجمته في كتاب الجمع بين رجال الصحيحين، ومعنى هذا أنهما لم يحتجا به ولا أحدهما، فأما الذين وثقوه فإنهم تتبعوا أحاديثه فوجدوها معروفة من رواية غيره من الثقات، ولم يثبت عليه جرح بين. أما مجالسته للحجاج204فليست بجرح بين، إذ قد يجالسه ولا يشركه في ظلمه بل يحرص على رد ظلمه ما استطاع، ويرى أن استمراره على ذلك أنفع للدين وللمسلمين من مباينته له، وقد كان نبي الله يوسف عاملًا للمشركين بمصر والملك فيهم ولم يكن يستطيع أن يحكم بخلاف دينهم بدليل قول الله عز وجل: { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } وإنما كان عليه السلام يعينهم على ما ليس بكفر ولا محرم عليه، فإذا جاء ما هو كفر أو محرم ولم يمكنه أن يصرفه تركه لهم، وقد أنذرهم بلطف وأذن الله تعالى أن يبقى معهم لما علم في ذلك من المصلحة.
قال: (وروى البخاري لمروان بن الحكم).










أقول: اعتبر البخاري أحاديث مروان فوجدها مستقيمة معروفة لها متابعات وشواهد، ووجد أن أهل عصر مروان كانوا يثقون بصدقه في الحديث، حتى روى عن سهل بن سعد الساعدي وهو صحابي، وروى عنه زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. بقي عدالته في سيرته، فلعل البخاري لم يثبت عنده ما يقطع بأن مروان ارتكب ما يخل بها غير متأول، وعلى كل حال فلا وجه للتشنيع إذ ليست المفسدة في الرواية عمن تذم حاله في الصحيح ما دام المروي ثابتًا من طريق غيره. ألا ترى أنه لو وقع في سند إلى بعض ثقات التابعين أنه سمع يهوديًا يقول لعلي بن أبي طالب سمعت نبيكم يقول كيت وكيت. فقال علي: وأنا سمعته يقول ذلك، لصح إثبات هذا الخبر في الصحيح وإن كان فيه صورة الرواية عن يهودي. فما بالك بمروان، مع أن روايته لا تخلو من تقوية لرواية غيره؛ لأنه على كل حال مسلمٌ قد عرف تحريه الصدق في الحديث.
وذكر (ص318) بعض ما نسب إلى بعض الصحابة ثم قال: (وما لا يحصى مما سكت عنه رعاية لحق النبيما لم يلجئ إليه ملجئ ديني فيجب ذكره، ومن الملجئات ترتب شيء من الدين على مروان والوليد [بن عقبة] وغيرهما فإنهما أعظم خيانة لدين الله …).
أقول: أما الوليد فقد تقدم (ص198) أنه لم يرو شيئًا، وإنما روى عنه مجهول خبرًا لو صح لما دل إلا على صدقه، وأما مروان فمن تتبع أحاديثه الثابتة عنه علم أن البخاري لم يبن شيئًا من الدين على رواية تفرد بها لفظًا ومعنى، وأما غيرهما فراجع (ص197).
وقال (ص320): (وأعجب من هذا أن في رجالهما من لم يثبت تعديله.. ) وذكر حفص بن بغيل [62] ومالك بن الخير الزبادي [63] وكلامًا للذهبي في ترجمتيهما قد رده الحافظ ابن حجر في ترجمة مالك بن الخير من لسان الميزان،205وفي مواضع أخر، وحفص ومالك ليسا ولا أحدهما في الصحيحين ولا أحدهما، ولا فيهما ولا في أحدهما من هو مثل حفص ومالك، فإن وجد من هو قريب من ذلك فنادرًا في المتابعات ونحوها كما بينه ابن حجر، على أنه لو فرض أن البخاري احتج في الصحيح بمن لم يوثقه غيره فاحتجاجه به في الصحيح توثيق وزيادة.
وذكر بعد ذلك في المتن والحاشية كلامًا قد تقدم بيان الحق فيه ولله الحمد.
ثم ذكر (ص324-327) كلامًا للدكتور طه حسين ذكره في معرض الرد على الذين يكذبون غالب ما روي من الأحداث في زمن عثمان ويقولون: (إنه على كل حال لم يرد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير) ويرون في سائر الصحابة أنهم: (يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائمًا ويسرعون إلى الخير دائمًا فلا يمكن أن يتورطوا في الكبائر، ولا أن يحدثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده).
أقول: أما أهل العلم من أهل السنة فلا يقولون في عثمان ولا في غيره من آحاد الصحابة إنه معصوم مطلقًا أو من الكبائر، وإنما يقولون في المبشرين بالجنة: إنه لا يمكن أن يقع منهم ما يحول بينهم وبين ما بُشروا به، وإن الصحابي الذي سمع من النبي ص ولم يعرف بنفاق في عهده ولا ارتد بعد موته لا يكذب عليه ص متعمدًا، وقد تقدم بيان ذلك، ولا يظن به أن يرتكب كبيرة غير متأول ويصر عليها، والعارف المنصف لا يستطيع أن يجحد أن هذه الحال كانت هي الغالبة فيهم، فالواجب الحمل عليها ما دام ذلك محتملًا، وعلماء السنة يجدون الاحتمال قائمًا في كل ما نقل نقلًا ثابتًا، نعم قد يبعد في بعض القضايا ولكنهم يرونه مع بعده أقرب من ضده، وذلك مبسوط في كتبهم.
قال (ص325): (ونحن لا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد).
أقول: وعلماء السنة كما رأيت لا يبلغون هذا الحد، وإن كانوا يعلمون أن حال الصحابة لا تقاس بحال غيرهم.
قال: (ولا نرى في أصحاب النبي ص ما لم يكونوا يرون في أنفسهم).
أقول: المدار على الحجة، فإذا ثبت عندنا أن أحدهم كان يرى في صاحبه أمرًا فليس لنا أن نوافقه إذا لم نعلم له حجة، فكيف إذا ماقامت الحجة على خلافه؟ وأوضح من ذلك أنه ليس لنا أن نتهم غير صاحبه بمثل تلك التهمة ما دام لا حجة لنا على ذلك. فأما الاستدلال على الإمكان فعلماء السنة لم ينفوا الإمكان إلا فيما قام عليه دليل شرعي كالتبشير بالجنة. والدليل الشرعي لا يعارضه ما دونه.
206قال: (وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق، فقد روي أن عمار بن ياسر …).
أقول: أما الترامي بالفسوق بمعنى ارتكاب بعض الكبائر فقد كان بعض ذلك وعلم حكمه مما مر، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه، وما ذكر أنه ما روي عن عمار وابن مسعود لم يثبت، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى فهي فلتة لسان عند ثورة غضب لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يزعمه ظاهرها، فكيف وقد ثبت عن النبي ص تبشير عثمان بالشهادة والجنة؟
ثم قال: (ص326) (الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي ص والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا … وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يروى أو نكذب كل ما يروى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد.. فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها وأن نضيف إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدثون من القواعد الجديدة …).
أقول: الرواة كما وصف، ولكن لا يجهل عاقل أن أحوالهم مختلفة: فمنهم المغفل المتساهل الذي يبني على










فيكثر غلطه، ومنهم الضابط المتقن المثبت الذي يندر جدًا أن يخطئ، وليس كل ما يصلح مستندًا للتوقف عن خبر الأول أو رده يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني. فأما الصدق وتعمد الكذب ولاسيما في الحديث النبوي فالأمر فيها أعظم، وللكذب دواع وموانع، والناس متفاوتون جدًا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة، فيقول له الدكاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبًا: إن صاحب ذلك الدكان يبيعها بقرشين، يكذب هذه الكذبة طبعًا في أن يغر الدكاني فيعطيه إياها بقرشين مع علمه أن كذبه قد ينكشف عن قريب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدحًا بكذبته، وأعرف من المقلين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظن أنه يتحصل به على مقدار كبير، فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشد، والمتدينون من الكذب فيه أبعد وأبعد. فإن قيل: قد ذكر أهل الحديث أن جماعة صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدًا في المواعظ ونحوها،207وذكروا في الهيثم بن عدي -وهو ممن يكذبون- أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.
قلت: أما صالحٌ يتعمد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يقاس به من عرف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يتهم كل إنسان بكل نقيصة عرفت لغيره، ولو عرف بأنه من أبعد الناس عنها.
فأما الهيثم بن عدي فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدوري قال: (حدثنا بعض أصحابنا قال: قالت جارية الهيثم بن عدي: كان مولاي …) والجارية لا يعرف حالها، والمخبر عنها لا يدرى من هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مر، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة. هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أن ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة فمن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه خطأوه - سواء كان ذلك فيما يسوءهم أم فيما يعجبهم. وأما من كان كذابًا أو متهمًا أو مغفلًا أو مجهولًا أو نحو ذلك فإنهم لا يحتجون بروايته. ومن هؤلاء جماعة كثير قد رووا عنهم في كتب التفسير وكثير من كتب الحديث والسير والمناقب والفضائل والتاريخ والأدب، وليست روايتهم عنهم تصديقًا لهم وإنما هي على سبيل التقييد والاعتبار، فإذا جاء دور النقد جروا على ما عرفوه، فما ثبت عما رواه هؤلاء برواية غيرهم من أهل الصدق قبلوه، وما لم يثبت فإن كان مما يقرب وقوعه لم يروا بذكره بأسًا وإن لم يكن حجة، وإن كان مما يستبعد أنكروه، فإن اشتد البعد كذبوه، وهذا التفصيل هو الحق المعقول، ومعلوم أن الكذوب قد يصدق فإذا صدقناه حيث عرفنا صدقه واستأنسنا بخبره حيث يقرب صدقه لم يكن علينا -بل لم يكن لنا- أن نصدقه حيث لم يتبين لنا صدقه، فكيف إذا تبين لنا كذبه؟
منزلة القواعد النظرية
أما القواعد النظرية قديمها وحديثها فحقها أن تضاف -كما أشار إليه الدكتور- إلى القواعد السندية بعد دراسة الناقد لهذه دراسة وافية وإيفائها حقها. فأما الاقتصار على القواعد النظرية أو ترجيح غير القطعي الحقيقي منها على رواية الثقات الأثبات، أو الاستدلال به على صدق الحكايات الواهية فضرره أكثر من نفعه، كثيرًا ما يبلغنا حدوث حادثة في عصرنا هذا فنرى صحتها؛ لأننا نرى أن الأسباب تستدعيها وتكاد توجب وقوعها، ثم يتبين أنها لم تقع، وتبلغنا واقعة فنرتاب فيها ونكاد نجزم بتكذيبها، ثم تبين أنها وقعت،208فإن قيل: إنما ذلك لخطئنا في اعتقاد أن هذا سبب أو مانع، أو في تقدير قوته، أو لجهلنا بأسباب وموانع أخرى أقوى مما عرفناه، قلت: فإذا كان هذا جهلنا بزماننا ومكاننا وبيئتنا، فكيف بما مضى عليه بضعة عشر قرنًا؟
ومما يجب التنبيه له أنه قد يثبت من جهة السند نص يستنكره بعض النقاد، وحق مثل هذا أن لا يبادر إلى رده، بل يمعن النظر في أمرين: الأول: معنى النص، فقد يكون المراد منه معنى غير الذي استنكر، الثاني: سبب الاستنكار، فكثيرًا ما يجيء الخلل من قِبَله.
وقد تقضي القرائن وقوع أمر سكتت عنه الروايات الصحيحة وترد رواية واهية السند فيها ما يؤدي ذاك الأمر في الجملة فيبادر الناقد إلى تثبيتها، وفي هذا ما فيه، ألا ترى أنه قد يجيئك شخص ضربه آخر فتسأله: لم ضربك؟ فيقول: بلا سبب، فترتاب في صدقه، فإذا جاء خصمه فقال: إنما ضربته؛ لأنه سبني سبًا شنيعًا، قال كيت وكيت، ظننت أنه صادق في الجملة، أي أنه قد كان سب، ولكنه قد يكون دون ما ذكره الضارب بكثير، فالصواب أن تذكر الرواية وأنها واهية السند، ثم يقال: ولكن القرائن تقتضي أنه قد كان شيء من ذاك القبيل، هذا هو مقتضى التحقيق والأمانة.
ثم قال أبو رية (ص 328) (طالب الحديث بغير فقه…).
أقول: قال أبو رية (ص46) (وروى البخاري ومسلم عن النبيقال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ»).
إذا طبق هذا الحديث على أهل الحديث فثقاتهم كلهم داخلون في الفرقتين الأوليين المحمودتين، راجع فتح الباري (1/161) وفي حديث زيد بن ثابت عن النبيعند الترمذي وغيره «نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه». فشمل الدعاء كما ترى من حفظ وبلغ وإن لم يكن فقيهًا.
وذكر عن الثوري: «لو كان الحديث خيرًا لذهب كما ذهب الخير».
أقول: لم يقصد نفي الخير عن هذا الحديث نفسه، كيف والقرآن خير كله ولم يذهب. ولا عن طلب الحديث جملة،209فإن المتواتر المعلوم قطعًا عن الثوري خلاف ذلك؛ وإنما قصد أن كثيرًا من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تقل، كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم وهلم جرا، وفي جانب ذلك رأى رغبة الناس في طلب الحديث لم تنقص، فرأى أنها ليست خيرًا على الإطلاق، يعني أن كثيرًا ممن يطلب الحديث يطلبه ليذكر ويشتهر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظموه. وأقول: إن العليم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسر ما يرغب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شرع حفظ السنة وتبليغها، ومع ذلك يسر ما يرغب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام وإن قل ثواب بعض المجاهدين فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظ الدين ونشره وإن قل أجر بعض الطالبين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)