









« وقد قلت إنّ الأمر لا يصلح إلّا بالاستراحة من هذين. » فلمّا اجتمعت كلمتهم أذعن بالخلع.
ولمّا كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجّة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، فأدخلهم إلى المستعين فوجا فوجا وأشهدهم عليه أنّه قد صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثم أدخل البوّابين والخدم وأخذ منه جوهر الخلافة وأقام عنده حتى مضى هوّى من الليل وأرجف الناس ضروب الأراجيف. ثم بعث ابن طاهر إلى قوّاده فجاء كلّ قائد ومعه عشرة من وجوه أصحابه فأدخلهم إليه ومنّاهم وقال:
« إنّما فعلت ما فعلت طلب صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء. » ثم أخرج قوما ثقات إلى المعتزّ، فمضوا إليه بالكتاب الذي فيه شروط المستعين ومحمد، فوقّع فيه المعتزّ بخطّه وأمضى كلّ ما سألاه وشهدوا عليه بإقراره لهما بذلك كلّه، وخلع المعتزّ على الرسل ولم ينظر لهم في حاجة ولا أطلق لهم جائزة ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمّه وابناه وعياله، بعد ما فتّش عياله، فأخذ منهم ما كان معهم.
خلافة المعتز
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
وفيها خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع المعتزّ محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم فدعى للمعتزّ على منبري بغداد ومسجدى جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند.
فذكر أنّ ابن طاهر دخل على المستعين، ومعه سعيد بن حميد، حين كتب شروط الأمان فقال له:
« يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد بن حميد كتاب الشرط ووكّده غاية التوكيد فيقرأه عليك وتسمعه. » فقال له المستعين:
« لا عليك إلّا توكّده يا با العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، وقد وكّدت على نفسك قبلهم، فكان ما قد علمت. » فما ردّ عليه محمد شيئا.
ولمّا بايع المستعين المعتزّ نقل من الرّصافة إلى قصر الحسن ووكّل به وأخذ منه البردة والخاتم والقضيب ووجّه بها مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه كتابا من محمد، نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله متمّم النعم والهادي إلى شكره وصلّى الله على محمد عبده ورسوله الذي جمع له من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصّه بخلافته وسلّم تسليما. كتابي إلى أمير المؤمنين، وقد تمّم الله له أمره وتسلّمت تراث رسول اللهممّن كان عنده وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده. » ومنع المستعين الخروج إلى مكّة فاختار البصرة فنزلها.
واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ووضع على رأسه تاجا، وشخص أبو أحمد إلى سرّ من رأى من معسكره وشيّعه محمد بن عبد الله، وخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا ورجع من الروذبار.
ولمّا وصل أبو أحمد إلى سرّ من رأى خلع عليه ستّ خلع وسيف وتوّج بتاج وقلنسوة مجوهرة ووشّح بوشاحى ذهب مجوهر وقلّد سيفا آخر مرصّعا بالجوهر وأجلس على كرسيّ وخلع على القوّاد الذين كانوا معه.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله أن يسقط وصيف وبغا ومن برسمهما من الدواوين. وتكلّم أبو أحمد بن المتوكّل في قتلهما وخاطب محمد بن أبي عون في ذلك فوعده بقتلهما، فكوتب وصيف وبغا بالخبر فركبا إلى ابن طاهر وقالا:
« قد بلغنا أيّها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا والقوم قد غدروا، وو الله لو أرادوا قتلنا ما قدروا عليه. »
فحلف محمد لهما أنّه ما علم بشيء من ذلك. وتكلّم بغا بكلام شديد ووصيف يكفّه. ثم نهضا وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفرقة الأموال.
وكان وصيف وجّه أخته فأخرجت من قصر أخيها وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه. فدفعتها إلى المؤيّد فكلّم المؤيّد المعتزّ في الرضا عن وصيف، فكتب بالرضا عنه.
وتكلّم أبو أحمد في الرضا عن بغا. ثم اجتمع الأتراك على المعتزّ فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا:
« هما كبيرانا ورئيسانا. » فكتب إليهما بذلك، فلمّا صار إلى سرّ من رأى اجتمع الموالي، وسألوا ردّهما إلى مراتبهما، فأجيبوا الى ذلك وبعث إليهما فخلع عليهما خلع المرتبة ورتّبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد وأمر بردّ ضياعهما.
وفي هذه السنة شغب الجند على محمد بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا بأرزاقهم وعظم الخطب في ذلك حتى خرجوا إلى باب حرب وباب الشمّاسية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا المضارب والخيم، وبنوا بيوتا من بواريّ وقصب، وجمع ابن طاهر أصحابه فبيّتهم في داره.
فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى المسجد الجامع فيمنعوه من الدعاء للمعتزّ. فأعلمهم جعفر أنّه لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه وصاروا إلى الشارع النافذ إلى دار الرقيق ثم قصدوا الجسر.
فوجّه إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جماعة من القوّاد والجند ليناظروهم ويدفعوهم دفعا رفيقا. فحملوا عليهم وجرحوا منهم جماعة وجرحوا أبا السنا وكبّروا وصاروا إلى دار ابن طاهر فقوتلوا، وقتل من الفريقين جماعة.
وصار جماعة من الغوغاء إلى مجلس الشرطة، فكسروا بيت الرفوع وانتهبوا ما فيه، وكان هناك أصناف من المتاع، كبير جليل، وأحرق محمد بن طاهر الجسرين لمّا رأى الجند يعبرون وقد ظهروا على أصحابه وضرب عدّة من الحوانيت بالنار للتجّار فيها متاع كثير لهم، فحالت النار بين الفريقين، وانصرف القوم إلى مضاربهم بباب حرب والشمّاسية. وانضمّ إلى ابن طاهر جماعة وعاد إليه قوم من المشغّبة وعبّأهم تعبئة الحروب خوفا من كثرة الجند، فلم تكن لهم عودة، وتلطّف القوّاد في التضريب بينهم، حتى تفرّقوا وصاروا إلى منازلهم.
خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد
وفي رجب من هذه السنة خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد بعده.










ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عامل أرمينية وأذربيجان، وهو العلاء بن أحمد، بعث إلى إبراهيم بن المتوكّل المؤيّد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره.
فبعث ابن فرّخان شاه إليها فأخذها. فأغرى المؤيّد الأتراك بعيسى بن فرّخانشاه، فشكا ذلك إلى المعتزّ وعرّفه الحال.
فبعث المعتزّ إلى أخويه المؤيّد وأبي أحمد فحبسهما في الجوسق، وقيّد المؤيّد وصيّره في حجرة ضيّقة وأدرّ العطاء للأتراك والمغاربة وحبس كنجور صاحب المؤيّد، وتوفّى إبراهيم المؤيّد.
ذكر سبب وفاة المؤيد
ذكر أنّ امرأة من نساء الأتراك جاءت إلى محمد بن راشد المغربيّ، فأخبرته أنّ الأتراك يريدون إخراج المؤيّد من الحبس فركب محمد بن راشد إلى المعتزّ، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا وسأله فأنكر وقال:
« يا أمير المؤمنين إنّما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكّل لأنسهم كان به في الحرب التي كانت، فأمّا المؤيّد فلا. » فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب، دعا بالقضاة والفقهاء والوجوه فأخرج إليهم إبراهيم المؤيّد ميتا لا أثر به ولا جرح. فذكر أنّه أدرج في لحاف سمّور، ثم أمسك طرفاه حتى مات. وقيل: إنّه أجلس على الثلج ونضّدت حجارة الثلج عليه، فجمد بردا.
وفي شوال منها قتل المستعين
ذكر السبب في قتله
اختلف في قتله. فقال قوم: كوتب محمد بن عبد الله بتسليم المستعين إلى منصور بن حمزة وهو على واسط، ثم وجّه أحمد بن طولون التركيّ في جيش فوافى به القاطول. وقيل بل كان أحمد بن طولون موكّلا بالمستعين، فوجّه سعيد بن صالح في حمله فصار إليه سعيد فحمله. فيقال: إنّه قتله سعيد بالقاطول. ويقال: بل حمله سعيد إلى منزله بسرّ من رأى فعذّبه حتى مات. ويقال: بل غرّقه، ويقال: بل قتله. وأتى المعتزّ برأسه وهو يلعب بالشطرنج فقيل:
« هذا رأس المخلوع. » فقال: « ضعوه هناك. » ثم فرغ من لعبه فدعا به فنظر إليه ثم أمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسة آلاف درهم وولّاه معونة البصرة.
وفي هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة
ذكر السبب في ذلك
كانت الأتراك وثبت على عيسى بن فرّخانشاه فتناولوه بالضرب وأخذوا دوابّه. فاجتمعت المغاربة وتكلّمت ورئيسهم محمد بن راشد ونصر بن سعيد.
فقالوا:
« في كلّ يوم تقتلون خليفة وتخلعون خليفة وتقتلون وزيرا وتثبون بآخر. » فغلبوا الأتراك على الجوسق وأخرجوهم منه. ثم وثبوا على بيت المال، وأخذوا دوابّ للأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم. فالتقوا مع المغاربة وتقاتلوا، فقتل من المغاربة رجل واحد وأخذت المغاربة قاتله وأعانت العامّة المغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين فاصطلحوا على أن يكون في كلّ موضع يكون فيه واحد من قبل أحد الفريقين يكون معه آخر من الفريق الآخر. فمكثوا على ذلك مدة مديدة ثم اجتمع الأتراك إلى بايكباك فقالوا:
« نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فليس ينطق أحد. » يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد. فبلغ أمر الأتراك هذين، فصارا إلى محمد بن عزّون فغمز بهما إلى بايكباك رجل، وقيل: بل كان ابن عزّون هو الذي دسّ إلى الأتراك من دلّهم عليها فقتلوهما. وبلغ ذلك المعتزّ من فعل ابن عزّون، فهمّ بقتله. ثم كلّم فيه فنفاه إلى بغداد ثم خاف فخرج إلى ضيعة له بالكوفة لها حصن. فوافاه فيها الأعراب فقتلوه.
وذكر أنّ أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدّرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار وذلك خراج المملكة لسنتين.
ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين
وفيها عقد المعتزّ في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل لحرب عبد العزيز بن أبي دلف، ومع موسى يومئذ من الأتراك ومن يجرى مجراهم ألفان وأربعمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائة وثلاثون رجلا. فأوقع مفلح - وهو على مقدّمة موسى بن بغا - بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان بقين من رجب من هذه السنة، وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفا. وكانت الوقعة بينهما خارج همذان، فهزمه مفلح ثلاث فراسخ يقتلون ويأسرون. ثم رجع مفلح موفورا بمن معه وكتب بالفتح.
فلمّا كان في شهر رمضان عبّأ مفلح خيله وتوجّه نحو الكرج، ووجّه عبد العزيز عسكرا في أربعة آلاف. وكمن مفلح كمينين، فقاتلهم مفلح وخرج الكمينان فانهزم أصحاب عبد العزيز ووضع فيهم السيف. وأقبل عبد العزيز في جيش ليعين أصحابه، فانهزم بانهزامهم وترك الكرج ومضى إلى قلعة له في جبل الكرج يقال لها: الزر، ونزل مفلح الكرج وأخذ جماعة من آل أبي دلف ونساء من نساءهم. فذكر أنّه وجّه سبعين حملا من الرؤوس إلى سرّ من رأى، وأعلاما كثيرة.
وفي هذه السنة قتل وصيف التركيّ
ذكر الخبر عن ذلك
كان الأتراك والفراغنة شغّبوا. وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر. فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشاربى في نحو مائة إنسان، فكلّمهم وصيف وقال:
« ما تريدون. » قالوا: « أرزاقنا. » فقال: « خذوا ترابا، وهل عندنا مال؟ » فقال لهم بغا:
« نعم نسأل أمير المؤمنين ذلك، ثم ينصرف عنكم من ليس منكم، ونتناظر في دار أشناس. » فدخلوا إلى أشناس، ومضى سيما منصرفا إلى سرّ من رأى وتبعه بغا لاستئمار الخليفة في إعطاءهم، وصار وصيف في أيديهم. فضرب ضربتين بالسيف واحتمله نوشرى وهو أحد قوّاده إلى منزله، ثم أبطأ عليهم. فظنّوا أنّه في التعبئة عليهم وقصدهم. فاستخرجوه من منزل نوشرى وضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه. ثم ضربوا عنقه ونصبوا رأسه على محراك تنّور، وقصدت العامّة بسرّ من رأي لانتهاب منازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف فمنعوا منازلهم.
وجعل المعتزّ ما كان إليه، إلى بغا الشرابي.
وفي هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر، ليلة كسوف القمر، وذلك لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، غرق القمر كلّه، ومات محمد مع انتهاء غرقه. وكانت علّته من قروح ذبحته في حلقه.










انهزام الكوكبي
وفيها لقي موسى بن بغا بقزوين الكوكبيّ الطالبيّ على فرسخ من قزوين، فهزمه، ولحق الكوكبي بالديلم.
ذكر الخبر عن ذلك
كان أصحاب الكوكبي من الديلم أقاموا تراسهم في وجوههم. فلمّا نظر موسى ورأى سهام أصحابه لا تصل إليها أمر بما معه من النفط، فصبّ في الأرض على حشيش كان هناك. ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم. فلمّا فعلوا ذلك ظنّ الكوكبي وأصحابه أنّهم قد انهزموا فتبعوهم، فلمّا علم موسى أنّهم قد توسّطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فأحدقت النار فيه، وخرجت من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم وهرب الباقون، فصارت هزيمة، ودخل موسى قزوين.
ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين
وفيها كان مقتل بغا الشرابيّ.
ذكر مقتل بغا الشرابي
كان بغا يحضّ المعتزّ على المصير إلى بغداد والمعتزّ يأبى ذلك. ثم انّ بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصّته لعرس جمعة بنت بغا وكان صالح بن وصيف تزوّجها. فركب المعتزّ ليلا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سرّ من رأى يريد بايكباك ومن كان على رأيه في الانحراف عن بغا مستخفيا منه.
فلمّا وافى المعتزّ بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ والدور، ثم أقبلوا مع المعتزّ إلى الجوسق بسرّ من رأى، وبلغ ذلك بغا فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقوّاده. فصار إلى نهر نيزك ثم تنقّل إلى مواضع، ثم صار إلى السنّ ومعه من العين تسع عشرة بدرة ومائة بدرة دراهم أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها يسيرا إلى أن قتل.
ولمّا بلغه أنّ المعتزّ قد صار إلى الكرخ مع أحمد بن إسرائيل، خرج في خاصّته إلى تلّ عكبر، ثم مضى إلى السنّ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنّهم لم يخرجوا معهم مضارب ولا ما يتدثّرون به من البرد وإنّهم في شتاء. وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة فكان يكون فيه، فأتاه أساتكين فقال:
« أصلح الله الأمير، قد تكلّم أهل العسكر وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك. » فقال: « كلّهم يقولون مثل قولك؟ » قال: « نعم وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي. »
قال: « دعني حتى أنظر ويخرج إليكم أمري بالغداة. » فلمّا جنّه الليل دعا بزورق فركبه مع خادمين معه وحمل معه شيئا من المال ولم يحمل معه سلاحا ولا سكّينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتزّ في غيبة بغا لا ينام إلّا في ثيابه وعليه السلاح ولا يشرب نبيذا وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأوّل. فلمّا قرب الزورق من الجسر بعث الموكلون به من ينظر من في الزورق. ثم صاحوا بالغلام فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدّة منهم، فوقف لهم وقال:
« أنا بغا. » ولحقه وليد المغربيّ فقال له:
« ما لك جعلت فداك؟ » قال: « إمّا أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف وإمّا أن تصيروا معي حتى أحسن إليكم. » فوكّل به وليد المغربي، ثم مرّ يركض إلى الجوسق فاستأذن على المعتزّ، فأذن له فقال:
« يا سيدي هذا بغا قد أخذته وقد وكّلت به. » قال: « ويلك جئني برأسه. » فرجع الوليد إليه فقال للموكّلين:
« تنحّوا عني حتى أبلغه الرسالة. » وضربه ضربة على جبهته ثم على يده فقطعها. ثم ضربه حتى صرعه وذبحه وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتزّ، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه.
ونصب رأس بغا بسرّ من رأى ثم ببغداد، ووثبت العامّة على جسده فأحرقوه بالنار.
وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد جعل مكان محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّته، فتتبع بنيه وكانوا صاروا إليها هرّابا مع قوم يثقون بهم.
فأثارهم وحبس قوما في المطبق وقوما في قصر الذهب، وكان سبب انحدار بغا إلى سرّ من رأى مستترا أنّه أشير عليه أن يصير إلى دار صالح بن وصيف، فإذا قرب العيد دخل أهل العسكر وخرج هو وأصحابه فوثبوا بالمعتزّ.
وفي هذه السنة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلى بتوجيه والده عبد العزيز إيّاه، فجبى منها ومن جنديسابور وتستر مائتي ألف دينار وانصرف.
ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
وفيها دخل مفلح طبرستان وواقع الحسن بن زيد الطالبيّ، فهزم مفلح الحسن فلحق بالديلم في طلب الحسن بن زيد.
وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس
وفيها كانت بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وقعة خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان، وكان قبل من عمّال آل طاهر، ثم كتب إلى السلطان يذكر ضعف آل طاهر وقلّة ضبطهم ما إليهم من البلاد، وأنّ يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس.
فكتب السلطان إليه بولايته كرمان وكتب أيضا إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كلّ واحد منهما بصاحبه لتسقط مؤونة الهالك منهما عنه ويتفرّد بمؤونة الآخر، إذ كان كلّ واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته. فلمّا فعل ذلك بهما زحف يعقوب من سجستان يريد كرمان ووجّه عليّ بن الحسين طوق بن المغلّس وقد بلغه خبر يعقوب وفصوله من سجستان.
فصار من كرمان على مرحلة وبقي في معسكره ذلك شهرا أو أكثر يتجسّس أخبار طوق ويسأل عن أمره كلّ من مرّ به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز بعسكره من ناحيته إلى كرمان. فلا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق.
ثم أظهر يعقوب الارتحال عن عسكره إلى ناحية سجستان فارتحل عنه مرحلة وبلغ طوقا ارتحاله. فظنّ أنّه قد بدا له في حربه وترك عليه كرمان وعلى عليّ بن الحسين، فوضع آلة الحرب وقصّر وقعد للشرب ودعا بالملاهي ويعقوب في كلّ ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتّصل به وضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشرب واللهو لارتحاله، فكرّ راجعا وطوى المرحلتين إليه في يوم واحد فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر يومه إلّا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان.
فقال لأهل القرية:
« ما هذه الغبرة. » فقيل: « هذه غبرة مواشى أهل القرية منصرفة إلى أهلها. » ثم لم يكن إلّا كلّا ولا حتى وافاه يعقوب في أصحابه فأحاط به وبأصحابه. فذهب أصحاب طوق لمّا أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم.
فقال يعقوب لأصحابه:
« أفرجوا عن القوم. » فأفرجوا لهم فمرّوا هاربين على وجوههم وخلّوا كلّ شيء لهم، وأسر يعقوب طوقا. وكان عليّ بن الحسين وجّه طوقا وحمّله صناديق في بعضها أطوقة وأسورة وفي بعضها أموال وفي بعضها قيود وأغلال ليطوّق ويجوّز ويسوّر من أبلى وأحسن وليقيّد من أسر وأخذ من أصحاب يعقوب.
فلمّا أسر يعقوب طوقا ورؤساء جيشه أمر بحيازة كلّ من كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كلّه وجمع إليه.
فلمّا أتى بالصناديق أمر بفتح بعضها فإذا فيه قيود وأغلال فقال لطوق:
« يا طوق ما هذه القيود والأغلال؟ » قال: « حمّلنيها عليّ بن الحسين على رسم العساكر لأقيّد بها الأسرى وأغلّهم. » فقال يعقوب: « يا فلان اجعل أكبرها وأثقلها في رجل طوق وعنقه، والباقية في أرجل أصحابه وأعناقهم. » ولم يزل يفتح الباقية من الصناديق حتى فتحت صناديق الأطواق والأسورة فقال: « يا طوق ما هذه؟ »
قال: « حمّلنيها عليّ لأطوّق وأسوّر أهل البلاء والإحسان. » فقال: « يا فلان خذ هذه الأطواق والأسورة فطوّق فلانا وسوّره، وفلانا وفلانا. » حتى فرّق تلك الأطواق كلّها ثم نظر إلى ذراع طوق وعليها عصابة فقال:
« يا طوق ما هذا؟ » قال: « أصلح الله الأمير، كنت وجدت حرارة ففصدت. » فدعا يعقوب بعض من معه فأمر بمدّ خفّه، فتناثر من خفّه كسر خبز يابسة فقال:
« يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلي منذ شهر وكسر خبزى في خفّى، ما وطأت فراشي ولا تودعت وأنت جالس في الشرب والملاهي.










ذكر سبب خلعه
لمّا جرى في أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك:
« وفّنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك. » فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت:
« ما عندي مال. » فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا في بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ.
فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثم بعثوا إليه:
« اخرج إلينا. » فبعث إليهم:
« إني أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إليّ بعضكم وليعلمني. » وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله.
فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القوّاد، فجرّوا برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق في مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثم قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده.
وقالوا له:
« اخلعها. » وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت:
« ليس عندي مال. » ثم وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك في المستأنف.
وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ.
ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا.
ثم إنّ الأتراك أحضروا ابن أبي الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح:
« اكتب عليه كتاب الخلع. » - يعنى المعتزّ.
فقال: « لا أحسنه. » وكان معه رجل إصبهاني فقال:
« أنا أكتب ويتخلّص الرجل. » فكتب وشهدوا عليه.
فقال ابن أبي الشوارب:
« إنّهم شهدوا على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان. »
فقال صالح بكفّه:
« أى نعم. » ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت في الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ.
ثم عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثم جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا.
فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.
خلافة المهتدي بالله ابن الواثق
وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم وأشهدهم على نفسه في صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ كلّ من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له في رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما في هذا الكتاب جميع الشهود من حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. » فوقّع المعتزّ في ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطّه.
وكتب محمد بن الواثق المهتدي بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان في داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثم وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه في حفظه وانصرفوا عنه.
ثم قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثم وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة.
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)