









على رسول الله ص، فرفع صوته، وتكلم، فعرفه رسول الله ص فقام حتى أتاه، فانطلقا ورجل رسول الله ص تستن دمًا؛ حتى انتهى إلى الغار مع الصبح؛ فدخلاه. وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله ص، فدخلوا الدار، وقام علي عليه السلام عن فراشه، فلما دنوا منه عرفوه، فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، أو رقيبًا كنت عليه! أمرتموه بالخروج فخرج؛ فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد، فحبسوه ساعة ثم تركوه، ونجى الله رسوله من مكرهم وأنزل عليه في ذلك: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ليقتلوك أو ليخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ". قال أبو جعفر: وأذن الله عز وجل لرسوله ص عند ذلك بالهجرة، فحدثنا علي بن نصر الجهضمي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: لما خرج أصحاب رسول الله ص إلى المدينة، وقبل أن يخرج - يعني رسول الله ص - وقبل أن تنزل هذه الآية التي أمروا فيها بالقتال، أستأذنه أبو بكر؛ ولم يكن أمره بالخروج مع من خرج من أصحابه، حبسه رسول الله ص، وقال له: أنظرني، فإنى لا أدري؛ لعلي يؤذن لي بالخروج.
وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين يعدهما للخروج مع أصحاب رسول الله ص إلى المدينة؛ فلما استنظره رسول الله ص، وأخبره بالذي يرجو من ربه أن يأذن له بالخروج، حبسهما وعلفهما، انتظار صحبة رسول الله ص، حتى أسمنهما، فلما حبس علي خروج النبي ص، قال أبو بكر: أتطمع أن يؤذن لك؟ قال: نعم؛ فانتظره فمكث بذلك.
فأخبرتني عائشة، أنهم بينا هم ظهرًا في بيتهم، وليس عند أبي بكر إلا ابنتاه: عائشة وأسماء؛ إذا هم برسول الله ص، حين قام قائم الظهيرة - وكان لا يخطئه يومًا أن يأتي بيت أبو بكر أول النهار وآخره - فلما رأى أبو بكر النبي ص جاء ظهرًا، قال له: ما جاء بك يا نبي الله إلا أمرٌ حدث؟ فلما دخل عليهم النبي ص البيت، قال لأبي بكر: أخرج من عندك، قال: ليس علينا عين إنما هما ابنتاي قال: إن الله قد أذن لي بالخروج إلى المدينة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، الصحابة، الصحابة! قال: الصحابة. قال أبو بكر: خذ إحدى الراحلتين - وهما الراحلتان اللتان كان يعلفهما أبو بكر، ويعدهما للخروج، إذا أذن لرسوال الله ص - فأعطاه إحدى الراحلتين، فقال: خذها يا رسول الله فارتحلها، فقال النبي ص. قد أخذتها بالثمن، وكان عامر بن فهيرة مولدًا من مولدي الأزد، كان للطفيل ابن عبد الله بن سخبرة، وهوأبو الحارث بن الطفيل، وكان أخا عائشة بنت أبي بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر لأمهما، فأسلم عامر بن فهيرة، وهو مملوك لهم، فاشتراه أبو بكر فأعتقه، وكان حسن الإسلام، فلما خرج النبي ص وأبو بكر، كان لأبي بكر منيحةٌ من غنمٍ تروح على أهله، فأرسل أبو بكر عامرًا في الغنم إلى ثورٌ، فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على رسول الله ص بالغار في ثور، وهو الغار الذي سماه الله في القرآن، فأرسل بظهرهما رجلًا من بنى عبد بن عدي، حليفًا لقريش من بنى سهم، ثم آل العاص بن وائل؛ وذلك العدوي يومئذ مشركٌ، ولكنهما استأجراه، وهو هاد بالطريق. وفي الليالي التي مكثا بالغار كان يأتيهما عبد الله بن أبي بكر حين يمسي بكل خبر بمكة، ثم يصبح بمكة ويريح عامر الغنم كل ليلة، فيحلبان، ثم يسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس ولا يفطن له؛ حتى إذا هدأت عنهما الأصوات، وأتاهما أن قد سكت عنهما، جاءهما صاحبهما ببعيريهما، فانطلقا وانطلق معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه على رحله، ليس معهما أحدٌ إلا عامر بن فهيرة، وأخو بنى عدي يهديهما الطريق، فأجاز بهما في أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى حاذى بهما الساحل، أسفل من عسفان، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد ما جاوز قديدًا، ثم سلك الخرار، ثم أجاز على ثنية المرة، ثم أخذ على طريق يقال لها المدلجة بين طريق عمق وطريق الروحاء، حتى توافوا طريق العرج، وسلك ماء يقال له الغابر عن يمين ركوبة؛ حتى يطلع على بطن رئم، ثم جاء حتى قدم المدينة على بنى عمرو بن عوف قبل القائلة. فحدثت أنه لم يبق فيهم إلا يومين - وتزعم بنو عمرو بن عوف أن قد أقام فيهم أفضل من ذلك - فاقتاد راحلته فاتبعته حتى دخل في دور بنى النجار، فأراهم رسول الله ص مربدًا كان بين ظهري دورهم.
وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، قال: حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي ص، قالت: كان رسول الله ص لا يخطئه أحدٌ طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرةً، وإما عشيةً حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة، وبالخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله ص بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها.
قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله ص هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله ص، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختى أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ص: أخرج عني من عندك، قال: يا نبي الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي! قال: إن الله عز وجل قد أذن لي بالخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة.
قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح؛ حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي من الفرح. ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتاي، كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقد - رجلًا من بني الديل بن بكر، وكانت أمه أمرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا - يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما، ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله ص أحدٌ حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر؛ فأما علي بن أبي طالب فإن رسول الله ص - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ص الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ص وليس بمكة أحدٌ عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عند رسول الله ص، لما يعرف من صدقه وأمانته. فلما أجمع رسول الله ص للخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور جبل في أسفل مكة، فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى بالغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، فأقام رسول الله ص في الغار ثلاثًا، ومعه أبو بكر، وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم، فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش ومعهم، ويستمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله ص وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، حتى يعفي عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما. فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس فيها عصامٌ فحلت نطاقها، فجعلته لها عصامًا، ثم علقتها به - فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر: ذات النطاقين؛ لذلك - فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله ص، قرب له أفضلهما، ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي! فقال رسول الله ص إني لا أركب بعيرًا ليس لي، قال: فهو لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي! قال: لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال: هي لك يا رسول الله، فركبا فانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه يخدمهما بالطريق.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله ص وأبو بكر أتانا نفرٌ من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي! قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي. قالت: ثم انصرفوا ومكثنا ثلاث ليال، لا ندري أين توجه رسول الله ص؛ حتى أقبل رجل من الجن، من أسفل مكة يغني بأبيات من الشعر غناء العرب والناس يتبعونه؛ يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ** رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واغتدوا به ** فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ** ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله ص، وأن وجهه إلى المدينة، وكانوا أربعه: رسول الله ص، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقد دليلهما.
قال أبو جعفر: حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا هشام ابن محمد بن السائب الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلًا يقول في الليل على أبي قبيس:










فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ ** بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بكر، سعد تميم، سعد هذيم! فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرًا ** ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ** على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ** جنانٌ من الفردوس ذات رفارف
فلما أصبحوا، قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
قال أبو جعفر: وقدم دليلهما بهما قباء، على بني عمرو بن عوف، لثنتى عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله ص، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله ص من مكة، وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا، ننتظر رسول الله ص؛ فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال؛ فإذا لم نجد ظلًا دخلنا بيوتنا، وذلك في أيام حارةٍ؛ حتى إذا كان في اليوم الذي قدم فيه رسول الله ص جلسنا كما كنا نجلس؛ حتى إذا لم يبق ظلٌ دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله ص حين دخلنا البيوت، فكان أول من رأه رجلٌ من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وإن كنا ننتظر قدوم رسول الله ص، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء.
قال: فخرجنا إلى رسول الله ص، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا من لم يكن رأى رسول الله ص قبل ذلك، قال: وركبه الناس، وما نعرفه من أبي بكر؛ حتى زال الظل عن رسول الله ص، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك، فنزل رسول الله ص - فيما يذكرون - على كلثوم بن هدم، أخي بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.
ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن هدم: إنما كان رسول الله ص إذا خرج من منزل كلثوم بن هدم، جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة؛ وذلك أنه كان عزبًا لا أهل له، وكان منازل العزاب من أصحاب رسول الله ص من المهاجرين عنده؛ فمن هنالك يقال: نزل على سعد بن خيثمة، وكان يقال لبيت سعد بن خيثمة بيت العزاب، فالله أعلم أي ذلك كان، كلا قد سمعنا.
ونزل أبو بكر بن أبي قحافة على خبيب بن أساف، أخي بني الحارث ابن الخزرج بالسنح، ويقول قائل: كان منزله على خارجة بن زيد بن أبي زهير، أخي بني الحارث بن الخزرج.
وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله ص الودائع التي كانت عنده إلى الناس؛ حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله ص، فنزل معه على كلثوم بن هدم، فكان علي يقول: وإنما كانت إقامته بقباء على امرأة لا زوج لها مسلمة، ليلةً أو ليلتين، وكان يقول: كنت نزلت بقباء على امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانًا يأتيها في جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئًا معه، قال: فاستربت لشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئًا، ما أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك! قالت: هذا سهل بن حنيف بن واهب، قد عرف إني امرأة لا أحد لي؛ فإذا أمسى عدا علي أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، وقال: احتطبي بهذا. فكان علي بن أبي طالب يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني هذا الحديث علي بن هند بن سعد بن سهل بن حنيف، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فأقام رسول الله ص بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس؛ وأسس مسجدهم، ثم أخرجه الله عز وجل من بين أظهرهم يوم الجمعة؛ وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك. والله أعلم.
ويقول بعضهم: إن مقامه بقباء كان بضعة عشر يومًا.
قال أبو جعفر: واختلف السلف من أهل العلم في مدة مقام رسول الله ص بمكة بعد ما استنبىء، فقال بعضهم: كانت مدة مقامه بها إلى أن هاجر إلى المدينة عشر سنين.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس المدني - يقال له أبو زكير - قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله ص بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشرًا.
حدثني الحسين بن نصر الآملي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن؛ قال: أخبرتني عائشة وابن عباس، أن رسول الله ص لبث بمكة عشر سنين، ينزل عليه القرآن.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: أنزل على رسول الله ص القرآن وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشرًا.
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنز ل على النبي صص وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشرًا.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: هاجر رسول الله ص على رأس عشرٍ من مخرجه.
قال أبو جعفر: وقال أخرون: بل أقام بعدما استنبىء بمكة ثلاثة عشرة سنة.










ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة -، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: أقام رسول الله ص بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أبو جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله ص لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا زكرياء ابن إسحاق، قال: حدثنا عمر بن دينار، عن ابن عباس، قال: مكث رسول الله ص بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث النبي ص لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة.
قال أبو جعفر: وقد وافق قول من قال: بعث رسول الله ص لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، أخي بني عدي بن النجار، في قصيدته التي يقول فيها، وهو يصف كرامة الله إياهم بما أكرمهم به من الإسلام، ونزول نبي الله ص، عليهم:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ** يذكر لو يلقى صديقًا مواتيا!
ويعرض في أهل المواسم نفسه ** فلم ير من يؤوى، ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ** فأصبح مسرورًا بطيبة راضيا
وألفى صديقًا وأطمأنت به النوى ** وكان له عونًا من الله باديا
يقص لنا ما قال نوحٌ لقومه ** وما قال موسى إذ أجاب المناديا
وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ** قريبًا، ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ** وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ** ونعلم أن الله أفضل هاديا
فأخبر أبو القيس في قصيدته هذه أن مقام رسول الله ص في قومه قريش، كان بعدما استنبىء وصدع بالوحي من الله بضع عشرة حجة.
وقال بعضهم كان مقامه بمكة خمس عشرة سنة:
ذكر من قال ذلك
حدثني بذلك الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ واستشهد بهذا البيت من قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، غير أنه أنشد ذلك:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ** يذكر لو يلقى صديقًا مواتيا!
قال أبو جعفر: وقد روى عن الشعبي أن إسرافيل قرن برسول الله ص قبل أن يوحى إليه ثلاث سنين.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي - قال: وحدثنا إملاءً من لفظه منصورٌ عن الأشعث، عن الشعبي - قال: قرن إسرافيل بنوة رسول الله ص ثلاث سنين، يسمع حسه، ولا يرى شخصه. ثم كان بعد ذلك جبريل عليه السلام.
قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار، فقال: والله يا بن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعًا، وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبىء إلى أن توفي ص.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر، قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بمكة وعشر سنين بالمدينة.
قال أبو جعفر: فلعل الذي قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرًا عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عز وجل، وأظهر الدعاء إلى توحيد الله. وعد الذين قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبىء فيه؛ وكان إسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة.
وقد روى عن قتادة غير القولين اللذين ذكرت؛ وذلك ما حدثت عن روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: نزل القرآن على رسول الله ص ثماني سنين بمكة وعشرًا بعدما هاجر، وكان الحسن يقول: عشرًا بمكة وعشرًا بالمدينة.
ذكر الوقت الذي عمل فيه التأريخ
قال أبو جعفر: ولما قدم رسول اللهالمدينة، أمر بالتأريخ فيما قيل. حدثني زكرياء بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي سلمة، عن ابن شهاب، أن النبي
لما قدم المدينة - وقدمها في شهر ربيع الأول - أمر بالتأريخ.
قال أبو جعفر: فذكر أنهم يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة.
وقد قيل أول من أمر بالتأريخ في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله.
ذكر الأخبار الواردة بذلك
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حبان ابن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: إنه تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. قال: فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله ص. وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله ص، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله ص، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خالد بن حيان أبو زيد الخراز، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، قال: رفع إلى عمر صكٌ محله في شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو أت، أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب رسول الله ص: ضعوا للناس شيئًا يعرفونه، فقال: بعضهم: اكتبوا على تأريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين؛ فهذا يطول. وقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الفرس؛ فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله؛ فاجتمع رأيهم على أن ينظزوا: كم أقام رسول الله ص بالمدينة؟ فوجدوه عشر سنين؛ فكتب التأريخ من هجرة رسول الله ص.
حدثت عن أمية بن خالد وأبي داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ قال: شيء تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر بن الخطاب: حسنٌ، فأرخوا.
فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ قالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته؛ ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: فأي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم؛ وهو شهرٌ حرام، فأجمعوا على المحرم.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعيد بن أبي مريم. وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبي، قالا جميعًا: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: ما أصاب الناس العدد؛ ما عدوا من مبعث رسول الله ص، ولا من وفاته، ولا عدوا إلا من مقدمه المدينة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله ص المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يعقوب ابن إسحاق بن أبي عباد؛ قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم رسول الله ص فيها، فذكر مثله.










حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا نوح بن قيس الطاحي، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في: " والفجر وليالٍ عشرٍ "، قال: الفجر هو المحرم، فجر السنة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق؛ عن الأسود بن يزيد، عن عبيد بن عمير، قال: إن المحرم شهر الله عز وجل، وهو رأس السنة، فيه يكسى البيت، ويؤرخ التأريخ، ويضرب فيه الورق، وفيه يوم كان تاب فيه قوم، فتاب الله عز وجل عليهم.
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية، وهو باليمن، وأن النبي ص قدم المدينة في شهر ربيع الأول، وأن الناس أرخوا لأول السنة؛ وإنما أرخ الناس لمقدم النبي ص.
وقال علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد ابن صالح، عن الشعبي، قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم عليه السلام إلى بنيان البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت؛ حتى تفرقت، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة، بني زيد، من تهامة؛ حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل؛ فكان التأريخ من الفيل، حتى أرخ عمر ابن الخطاب من الهجرة؛ وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم، فقال: من أي يوم نكتب؟ فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول الله ص، وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه.
قال أبو جعفر: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد، عمن رواه عنه في تأريخ بني إسماعيل غير بعيد من الحق؛ وذلك أنهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم، وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي بلادهم، ولزبةٍ أصابتهم؛ أو بالعامل كان يكون عليهم، أو الأمر الحادث فيهم ينتشر خبره عندهم؛ يدل على ذلك اختلاف شعرائهم في تأريخاتهم؛ ولو كان لهم تأريخ على أمرٍ معروف، وأصلٍ معمول عليه، لم يختلف ذلك منهم.
ومن ذلك قول الربيع بن ضبع الفزاري:
هأنذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس هل سمعت به ** هيهات هيهات طال ذا عمرا!
فأرخ عمره بحجر بن عمرو أبي امرئ القيس.
وقال نابغة بني جعدة:
فمن يك سائلًا عني فإني ** من الشبان أزمان الخنان
فجعل النابغة تأريخه ما أرخ بزمان علة كانت فيهم عامة.
وقال آخر:
وما هي إلا في إزارٍ وعلقةٍ ** مغار ابن همامٍ على حي خثعما
فكل واحد من هؤلاء الذين ذكرت تأريخهم في هذه الأبيات، أرخ على قرب زمان بعضهم من بعض، وقرب وقت ما أرخ به من وقت الآخر؛ بغير المعنى الذي أرخ به الآخر؛ ولو كان لهم تأريخ معروف كما للمسلمين اليوم ولسائر الأمم غيرها، كانوا إن شاء الله لا يتعدونه؛ ولكن الأمر في ذلك كان عندهم إن شاء الله على ما ذكرت؛ فأما قريش من بين العرب؛ فإن آخر ما حصلت من تأريخها قبل هجرة النبي ص من مكة إلى المدينة على التأريخ بعام الفيل؛ وذلك عام ولد رسول الله ص، وكان بين عام الفيل والفجار عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبة ومبعث النبي ص خمس سنين.
قال أبو جعفر: وبعث رسول اله ص وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته - كما قال الشعبي - ثلاث سنين: إسرافيل؛ وذلك قبل أن يؤمر بالدعاء وإظهاره على ما قدمنا الرواية والإخبار به، ثم قرن بنبوته جبريل عليه السلام بعد السنين الثلاث، وأمره بإظهار الدعوة إلى الله، فأظهرها، ودعا إلى الله مقيمًا بمكة عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة من حين استنبئ، وكان خروجه من مكة إليها يوم الاثنين، وقدومه المدينة يوم الاثنين؛ لمضى اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول.
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي ص يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال: قدم رسول الله ص المدينة يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم النبي ص المدينة بشهرين وأيام؛ هي اثنا عشر؛ وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي ص المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التأريخ من وقت قدومه؛ بل من أول تلك السنة.
ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة
قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي ص المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر إرتحاله عنه. ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه؛ وهي السنة الأولى من الهجرة.
فمن ذلك تجميعه ص بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء؛ وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم - قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدًا - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله ص في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة؛ وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل.
خطبة رسول الله ص في أول جمعة جمعها بالمدينة
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله ص في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:
" الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودنوٍ من الساعة، وقربٍ من الأجل؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى وفرط؛ وضل ضلالًا بعيدًا. وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم؛ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرًا؛ وإن تقوى الله لمن عمل به على وجلٍ ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلامٍ للعبيد ". فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرًا، ومن يتق الله فقد فاز فوزًا عظيمًا. وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وأن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله؛ قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه؛ الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم!.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)